فصل: فَصْلٌ: (فِي حُكْمِ الْأَعْيَانِ الْمُشْتَرَكَةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ الْأَرْضِ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج ***


فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏فِي حُكْمِ الْأَعْيَانِ الْمُشْتَرَكَةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ الْأَرْضِ‏]‏

المتن‏:‏

الْمَعْدِنُ الظَّاهِرُ، وَهُوَ مَا خَرَجَ بِلَا عِلَاجٍ كَنِفْطٍ وَكِبْرِيتٍ وَقَارٍ وَمُومْيَاءَ وَبِرَامٍ وَأَحْجَارِ رَحًى لَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ وَلَا يَثْبُتُ فِيهِ اخْتِصَاصٌ بِتَحَجُّرٍ وَلَا إقْطَاعٍ

الشَّرْحُ‏:‏

فَصْلٌ فِي حُكْمِ الْأَعْيَانِ الْمُشْتَرَكَةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ الْأَرْضِ ‏(‏الْمَعْدِنُ‏)‏ وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي بَابِ زَكَاتِهِ، وَهُوَ نَوْعَانِ‏:‏ ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ، فَالْمَعْدِنُ ‏(‏الظَّاهِرُ وَهُوَ مَا خَرَجَ‏)‏ أَيْ بَرَزَ جَوْهَرُهُ ‏(‏بِلَا عِلَاجٍ‏)‏ أَيْ عَمَلٍ وَإِنَّمَا الْعَمَلُ وَالسَّعْيُ فِي تَحْصِيلِهِ، وَقَدْ يَسْهُلُ وَقَدْ لَا يَسْهُلُ ‏(‏كَنِفْطٍ‏)‏ وَهُوَ بِكَسْرِ النُّونِ أَفْصَحُ مِنْ فَتْحِهَا وَإِسْكَانِ الْفَاءِ فِيهِمَا‏:‏ مَا يُرْمَى بِهِ‏.‏ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ‏:‏ وَهُوَ يَكُونُ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ فِي الْعَيْنِ، وَفِي الصِّحَاحِ أَنَّهُ اسْمٌ لِدُهْنٍ ‏(‏وَكِبْرِيتٍ‏)‏ وَهُوَ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ‏:‏ عَيْنٌ تَجْرِي مَاءً فَإِذَا جَمَدَ مَاؤُهَا صَارَ كِبْرِيتًا أَبْيَضَ وَأَصْفَرَ وَأَحْمَرَ وَأَكْدَرَ، وَيُقَالُ‏:‏ إنَّ الْأَحْمَرَ الْجَوْهَرُ، وَلِهَذَا ضَرَبُوا بِهِ الْمَثَلَ فِي الْعِزَّةِ فَقَالُوا‏:‏ أَعَزُّ مِنْ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ، يُقَالُ‏:‏ إنَّ مَعْدِنَهُ خَلْفَ بِلَادِ وَادِي النَّمْلِ الَّذِي مَرَّ بِهِ سُلَيْمَانُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، يُضِيءُ فِي مَعْدِنِهِ، فَإِذَا فَارَقَهُ زَالَ ضَوْءُهُ ‏(‏وَقَارٍ‏)‏ وَهُوَ الزِّفْتُ، وَيُقَالُ‏:‏ فِيهِ قِيرٌ ‏(‏وَمُومْيَاءَ‏)‏ وَهُوَ بِضَمِّ الْمِيمِ الْأُولَى وَبِالْمَدِّ، وَحُكِيَ الْقَصْرُ‏:‏ شَيْءٌ يُلْقِيهِ الْمَاءُ فِي بَعْضِ السَّوَاحِلِ فَيَجْمُدُ فِيهِ فَيَصِيرُ كَالْقَارِ، وَقِيلَ‏:‏ إنَّهُ أَحْجَارٌ سُودٌ بِالْيَمَنِ خَفِيفَةٌ فِيهَا تَجْوِيفٌ‏.‏

وَأَمَّا الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ عِظَامِ الْمَوْتَى، فَهِيَ نَجِسَةٌ ‏(‏وَبِرَامٍ‏)‏ بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ‏:‏ جَمْعُ بُرْمَةٍ بِضَمِّهَا‏:‏ حَجَرٌ يُعْمَلُ مِنْهُ الْقِدْرُ ‏(‏وَأَحْجَارِ رَحًى‏)‏ وَأَحْجَارِ نُورَةٍ وَمَدَرٍ وَجِصٍّ وَمِلْحٍ مَائِيٍّ، وَكَذَا جَبَلِيٍّ إنْ لَمْ يُحْوِجْ إلَى حَفْرٍ وَتَعَبٍ ‏(‏لَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ‏)‏ هَذَا خَبَرُ قَوْلِهِ الْمَعْدِنُ، وَقَوْلُهُ ‏(‏وَلَا يَثْبُتُ فِيهِ اخْتِصَاصٌ بِتَحَجُّرٍ وَلَا إقْطَاعٍ‏)‏ مِنْ سُلْطَانٍ مَعْطُوفٌ عَلَى الْخَبَرِ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ النَّاسِ مُسْلِمِهِمْ وَكَافِرِهِمْ كَالْمَاءِ وَالْكَلَإِ ‏"‏؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏{‏أَقْطَعَ رَجُلًا مِلْحَ مَأْرِبَ فَقَالَ رَجُلٌ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ كَالْمَاءِ الْعِدِّ‏:‏ أَيْ الْعَذْبِ قَالَ‏:‏ فَلَا إذْنَ‏}‏ رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ‏.‏ وَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ وَكَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْإِقْطَاعِ بَيْنَ إقْطَاعِ التَّمْلِيكِ وَإِقْطَاعِ الْإِرْفَاقِ وَهُوَ كَذَلِكَ وَإِنْ قَيَّدَ الزَّرْكَشِيُّ الْمَنْعَ بِالْأَوَّلِ‏.‏ وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُقْطِعَ أَرْضًا لِيَأْخُذَ حَطَبَهَا أَوْ حَشِيشَهَا أَوْ صَيْدَهَا، وَلَا بِرْكَةً لِيَأْخُذَ سَمَكَهَا، وَلَا يَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَحَجُّرٌ كَمَا لَا يَدْخُلُ إقْطَاعٌ، وَقَدْ مَرَّ فِي زَكَاةِ الْمَعْدِنِ أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الْمُخْرَجِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا وَعَلَى الْبُقْعَةِ، وَإِذْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَا تَسَاهُلَ فِي عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ كَمَا قِيلَ‏.‏

وَأَمَّا الْبِقَاعُ الَّتِي تُحْفَرُ بِقُرْبِ السَّاحِلِ وَيُسَاقُ إلَيْهَا الْمَاءُ فَيَنْعَقِدُ فِيهَا مِلْحًا فَيَجُوزُ إحْيَاؤُهَا وَإِقْطَاعُهَا‏.‏

المتن‏:‏

فَإِنْ ضَاقَ نَيْلُهُ قُدِّمَ السَّابِقُ إلَيْهِ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ فَإِنْ طَلَبَ زِيَادَةً فَالْأَصَحُّ إزْعَاجُهُ، فَلَوْ جَاءَا مَعًا أُقْرِعَ فِي الْأَصَحِّ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏فَإِنْ ضَاقَ نَيْلُهُ‏)‏ أَيْ الْحَاصِلُ مِنْهُ عَنْ اثْنَيْنِ مَثَلًا جَاءَ إلَيْهِ ‏(‏قُدِّمَ السَّابِقُ‏)‏ إلَيْهِ ‏(‏بِقَدْرِ حَاجَتِهِ‏)‏ مِنْهُ لِسَبْقِهِ وَيَرْجِعُ فِيهَا إلَى مَا تَقْتَضِيهِ عَادَةُ أَمْثَالِهِ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ وَأَقَرَّاهُ، وَقِيلَ‏:‏ إنْ أَخَذَ لِغَرَضِ دَفْعِ فَقْرٍ أَوْ مَسْكَنَةٍ مُكِّنَ مِنْ أَخْذِ كِفَايَةِ سَنَةٍ أَوْ الْعُمْرِ الْغَالِبِ عَلَى الْخِلَافِ الْآتِي فِي قَسْمِ الصَّدَقَاتِ ‏(‏فَإِنْ طَلَبَ زِيَادَةً‏)‏ عَلَى حَاجَتِهِ ‏(‏فَالْأَصَحُّ إزْعَاجُهُ‏)‏ إنْ زُوحِمَ عَنْ الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّ عُكُوفَهُ عَلَيْهِ كَالتَّحَجُّرِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ يَأْخُذُ مِنْهُ مَا شَاءَ لِسَبْقِهِ ‏(‏فَلَوْ جَاءَا‏)‏ إلَيْهِ ‏(‏مَعًا‏)‏ وَلَمْ يَكْفِ الْحَاصِلُ مِنْهُ لِحَاجَتِهِمَا وَتَنَازَعَا فِي الِابْتِدَاءِ ‏(‏أُقْرِعَ‏)‏ بَيْنَهُمَا ‏(‏فِي الْأَصَحِّ‏)‏ لِعَدَمِ الْمَزِيَّةِ وَالثَّانِي‏:‏ يَجْتَهِدُ الْإِمَامُ وَيُقَدِّمُ مَنْ يَرَاهُ أَحْوَجَ‏.‏ وَالثَّالِثُ‏:‏ يُنَصِّبُ مَنْ يُقَسِّمُ الْحَاصِلَ بَيْنَهُمَا‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ أَحَدُهُمَا لِلتِّجَارَةِ وَالْآخَرُ لِلْحَاجَةِ أَمْ لَا وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا وَالْآخَرُ ذِمِّيًّا قُدِّمَ الْمُسْلِمُ كَمَا بَحَثَهُ الْأَذْرَعِيُّ نَظِيرُ مَا مَرَّ فِي مَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ‏.‏

المتن‏:‏

، وَالْمَعْدِنُ الْبَاطِنُ وَهُوَ مَا لَا يَخْرُجُ إلَّا بِعِلَاجٍ كَذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَحَدِيدٍ وَنُحَاسٍ لَا يُمْلَكُ بِالْحَفْرِ وَالْعَمَلِ فِي الْأَظْهَرِ

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَالْمَعْدِنُ الْبَاطِنُ، وَهُوَ مَا لَا يَخْرُجُ‏)‏ أَيْ يَظْهَرُ جَوْهَرُهُ ‏(‏إلَّا بِعِلَاجٍ كَذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَحَدِيدٍ‏)‏ وَرَصَاصٍ ‏(‏وَنُحَاسٍ‏)‏ وَفَيْرُوزَجَ وَيَاقُوتٍ وَعَقِيقٍ وَسَائِرِ الْجَوَاهِرِ الْمَبْثُوثَةِ فِي طَبَقَاتِ الْأَرْضِ ‏(‏لَا يُمْلَكُ بِالْحَفْرِ وَالْعَمَلِ‏)‏ فِي مَوَاتٍ بِقَصْدِ التَّمَلُّكِ ‏(‏فِي الْأَظْهَرِ‏)‏ كَالْمَعْدِنِ الظَّاهِرِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ يُمْلَكُ بِذَلِكَ إذَا قَصَدَ التَّمَلُّكَ كَالْمَوَاتِ، وَفَرَّقَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الْمَوَاتَ يُمْلَكُ بِالْعِمَارَةِ، وَحَفْرُ الْمَعْدِنِ تَخْرِيبٌ؛ لِأَنَّ الْمَوَاتَ إذَا مُلِكَ يَسْتَغْنِي الْمُحْيِي عَنْ الْعَمَلِ، وَالنَّيْلُ مَبْثُوثٌ فِي طَبَقَاتِ الْأَرْضِ يُحْوِجُ كُلَّ يَوْمٍ إلَى حَفْرٍ وَعَمَلٍ‏.‏ نَعَمْ هُوَ أَحَقُّ بِهِ وَإِذَا طَالَ مَقَامُهُ، فَفِي إزْعَاجِهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي الظَّاهِرِ، وَلَوْ ازْدَحَمَ عَلَيْهِ اثْنَانِ وَضَاقَ عَنْهُمَا فَعَلَى مَا سَبَقَ مِنْ الْأَوْجُهِ فِي الْمَعْدِنِ الظَّاهِرِ، وَلِقِطْعَةِ ذَهَبٍ أَبْرَزَهَا السَّيْلُ أَوْ أَتَى بِهَا حُكْمُ الْمَعْدِنِ الظَّاهِرِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

سُكُوتُ الْمُصَنِّفِ عَنْ الْإِقْطَاعِ هُنَا يُفْهِمُ جَوَازَهُ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏{‏أَقْطَعَ بِلَالَ بْنَ الْحَارِثِ الْمَعَادِنَ الْقَبَلِيَّةَ‏}‏ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَهِيَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ قَرْيَةٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ‏:‏ يُقَالُ لَهَا‏:‏ الْفُرْعُ بِضَمِّ الْفَاءِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ وَهَذَا الْإِقْطَاعُ إقْطَاعُ إرْفَاقٍ كَمَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ، وَقِيلَ تَمْلِيكٌ كَإِقْطَاعِ الْمَوَاتِ‏.‏

المتن‏:‏

وَمَنْ أَحْيَا مَوَاتًا فَظَهَرَ فِيهِ مَعْدِنٌ بَاطِنٌ مَلَكَهُ

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَمَنْ أَحْيَا مَوَاتًا فَظَهَرَ فِيهِ مَعْدِنٌ بَاطِنٌ‏)‏ كَذَهَبٍ ‏(‏مَلَكَهُ‏)‏ جَزْمًا؛ لِأَنَّهُ بِالْإِحْيَاءِ مَلَكَ الْأَرْضَ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا، وَمِنْ أَجْزَائِهَا الْمَعْدِنُ بِخِلَافِ الرِّكَازِ فَإِنَّهُ مُودَعٌ فِيهَا وَمَعَ مِلْكِهِ لَهُ لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ عَلَى الْأَصَحِّ فِي الرَّوْضَةِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمَعْدِنِ النَّيْلُ وَهُوَ مَجْهُولٌ، فَلَوْ قَالَ مَالِكُهُ لِشَخْصٍ‏:‏ مَا اسْتَخْرَجْتَهُ مِنْهُ فَهُوَ لِي فَفَعَلَ فَلَا أُجْرَةَ لَهُ أَوْ قَالَ‏:‏ فَهُوَ بَيْنَنَا فَلَهُ أُجْرَةُ النِّصْفِ أَوْ قَالَ لَهُ‏:‏ كُلُّهُ لَك فَلَهُ أُجْرَتُهُ، وَالْحَاصِلُ مِمَّا اسْتَخْرَجَهُ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ لِلْمَالِكِ لِأَنَّهُ هِبَةُ مَجْهُولٍ، وَخَرَجَ بِظَهْرِ مَا إذَا كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ بِالْبُقْعَةِ الْمُحْيَاةِ مَعْدِنًا فَاِتَّخَذَ عَلَيْهِ دَارًا، فَفِيهِ طَرِيقَانِ‏:‏ أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي تَمَلُّكِهِ بِالْإِحْيَاءِ وَهُوَ قَضِيَّةُ إطْلَاقِ الْمُحَرَّرِ، فَيَكُونُ الرَّاجِحُ عَدَمُ مِلْكِهِ لِفَسَادِ الْقَصْدِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ كَمَا هُوَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الرَّوْضِ الْمُعْتَمَدَةِ‏.‏ وَالطَّرِيقُ الثَّانِي‏:‏ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ يَمْلِكُهُ وَرَجَّحَهُ فِي الْكِفَايَةِ وَخَرَجَ بِالْبَاطِنِ الظَّاهِرُ فَلَا يَمْلِكُهُ بِالْإِحْيَاءِ إنْ عَلِمَهُ لِظُهُورِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى عِلَاجٍ‏.‏ أَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْهُ، فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ كَمَا فِي الْحَاوِي نَقَلَهُ عَنْهُ الشَّارِحُ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمَعْدِنَيْنِ حُكْمُهُمَا وَاحِدٌ، وَإِنْ أَفْهَمَتْ عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الظَّاهِرَ لَا يَمْلِكُ مُطْلَقًا‏.‏

وَأَمَّا بُقْعَةُ الْمَعْدِنَيْنِ فَلَا يَمْلِكُهَا بِالْإِحْيَاءِ مَعَ عِلْمِهِ بِهِمَا لِفَسَادِ قَصْدِهِ؛ لِأَنَّ الْمَعْدِنَ لَا يُتَّخَذُ دَارًا وَلَا مَزْرَعَةً وَلَا بُسْتَانًا وَنَحْوَهَا‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

إنَّمَا خَصَّ الْمُصَنِّفُ الْمَعْدِنَ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيهِ، وَإِلَّا فَمَنْ مَلَكَ أَرْضًا بِالْإِحْيَاءِ مَلَكَ طَبَقَاتِهَا حَتَّى الْأَرْضَ السَّابِعَةَ‏.‏

المتن‏:‏

وَالْمِيَاهُ الْمُبَاحَةُ مِنْ الْأَوْدِيَةِ وَالْعُيُونِ فِي الْجِبَالِ يَسْتَوِي النَّاسُ فِيهَا‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَالْمِيَاهُ الْمُبَاحَةُ مِنْ الْأَوْدِيَةِ‏)‏ كَالنِّيلِ وَالْفُرَاتِ وَدِجْلَةَ ‏(‏وَالْعُيُونِ‏)‏ الْكَائِنَةِ ‏(‏فِي الْجِبَالِ‏)‏ وَنَحْوِهَا مِنْ الْمَوَاتِ وَسُيُولِ الْأَمْطَارِ ‏(‏يَسْتَوِي النَّاسُ فِيهَا‏)‏ لِخَبَرِ ‏{‏النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ‏:‏ فِي الْمَاءِ وَالْكَلَأِ وَالنَّارِ‏}‏ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ تَحَجُّرُهَا وَلَا لِلْإِمَامِ إقْطَاعُهَا بِالْإِجْمَاعِ كَمَا نَقَلَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُمَا‏.‏ وَلَوْ حَضَرَ اثْنَانِ فَصَاعِدًا أَخَذَ كُلٌّ مَا شَاءَ، فَإِنْ ضَاقَ وَقَدْ جَاءَا مَعًا قُدِّمَ الْعَطْشَانُ لِحُرْمَةِ الرُّوحِ، فَإِنْ اسْتَوَيَا فِي الْعَطَشِ أَوْ فِي غَيْرِهِ أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا، وَلَيْسَ لِلْقَارِعِ أَنْ يُقَدِّمَ دَوَابَّهُ عَلَى الْآدَمِيِّينَ، بَلْ إذَا اسْتَوَوْا اُسْتُؤْنِفَتْ الْقُرْعَةُ بَيْنَ الدَّوَابِّ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْقُرْعَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ؛ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ وَإِنْ جَاءَا مُتَرَتِّبَيْنِ قُدِّمَ السَّابِقُ بِقَدْرِ كِفَايَتِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِيًا لِدَوَابِّهِ، وَالْمَسْبُوقُ عَطْشَانُ فَيُقَدَّمُ الْمَسْبُوقُ، وَالْمُرَادُ بِالْمُبَاحِ مَا لَا مَالِكَ لَهُ، وَاحْتَرَزَ بِهِ عَنْ الْمَاءِ الْمَمْلُوكِ وَسَيَذْكُرُهُ‏.‏

فَرْعٌ‏:‏

أَرْضٌ وُجِدَ فِي يَدِ أَهْلِهَا نَهْرٌ لَا تُسْقَى تِلْكَ الْأَرْضُ إلَّا مِنْهُ وَلَمْ يَدْرِ أَنَّهُ حُفِرَ أَوْ انْحَفَرَ

فَرْعٌ‏:‏

كُلُّ أَرْضٍ وُجِدَ فِي يَدِ أَهْلِهَا نَهْرٌ لَا تُسْقَى تِلْكَ الْأَرْضُ إلَّا مِنْهُ وَلَمْ يَدْرِ أَنَّهُ حُفِرَ أَوْ انْحَفَرَ حُكِمَ لَهُمْ بِمِلْكِهِ‏:‏ لِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ يَدٍ وَانْتِفَاعٍ، وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ‏:‏ أَنَّ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَكُونَ مَنْبَعُهُ مِنْ أَرَاضِيهِمْ الْمَمْلُوكَةِ لَهُمْ‏.‏ أَمَّا لَوْ كَانَ مَنْبَعُهُ بِمَوَاتٍ أَوْ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ نَهْر عَامٍّ - كَدِجْلَةَ - فَلَا، بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى الْإِبَاحَةِ‏.‏ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ‏:‏ وَلَوْ كَانَ فِي الْمَاءِ الْمُبَاحِ قَاطِنُونَ فَأَهْلُ النَّهْرِ أَوْلَى بِهِ قَالَهُ أَبُو الطَّيِّبِ، وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ حَافَاتُ الْمِيَاهِ الَّتِي يَعُمُّ جَمِيعَ النَّاسِ الِارْتِفَاقُ بِهَا فَلَا يَجُوزُ تَمَلُّكُ شَيْءٍ مِنْهَا بِإِحْيَاءٍ وَلَا ابْتِيَاعٍ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَلَا بِغَيْرِهِ، وَقَدْ عَمَّتْ الْبَلْوَى بِالْأَبْنِيَةِ عَلَى حَافَاتِ النِّيلِ كَمَا عَمَّتْ بِالْقَرَافَةِ مَعَ أَنَّهَا مُسَبَّلَةٌ ا هـ‏.‏

وَقَدْ مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَى بَعْضِ ذَلِكَ‏.‏

المتن‏:‏

، فَإِنْ أَرَادَ قَوْمٌ سَقْيَ أَرَضِيهِمْ مِنْهَا فَضَاقَ سُقِيَ الْأَعْلَى فَالْأَعْلَى وَحَبَسَ كُلُّ وَاحِدٍ الْمَاءَ حَتَّى يَبْلُغَ الْكَعْبَيْنِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْأَرْضِ ارْتِفَاعٌ وَانْخِفَاضٌ أُفْرِدَ كُلُّ طَرَفٍ بِسَقْيٍ

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏فَإِنْ أَرَادَ قَوْمٌ سَقْيَ أَرَضِيهِمْ‏)‏ بِفَتْحِ الرَّاءِ بِلَا أَلِفٍ عَدَّهَا ‏(‏مِنْهَا‏)‏ أَيْ الْمِيَاهِ الْمُبَاحَةِ ‏(‏فَضَاقَ‏)‏ الْمَاءُ عَنْهُمْ وَبَعْضُهَا أَعْلَى مِنْ بَعْضٍ ‏(‏سُقِيَ الْأَعْلَى فَالْأَعْلَى‏)‏ وَلَوْ كَانَ زَرَعَ الْأَسْفَلَ قَبْلَ أَنْ يَنْتَهِيَ الْمَاءُ إلَيْهِ، فَلَا يَجِبُ عَلَى مَنْ فَوْقَهُ إرْسَالُهُ إلَيْهِ كَمَا قَالَهُ أَبُو الطَّيِّبِ ‏(‏وَحَبَسَ كُلُّ وَاحِدٍ‏)‏ مِنْهُمْ ‏(‏الْمَاءَ حَتَّى يَبْلُغَ الْكَعْبَيْنِ‏)‏ ‏"‏ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِذَلِكَ ‏"‏ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَهَذَا مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ‏.‏

وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ‏:‏ لَيْسَ التَّقْدِيرُ بِالْكَعْبَيْنِ فِي كُلِّ الْأَزْمَانِ وَالْبُلْدَانِ؛ لِأَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالْحَاجَةِ، وَالْحَاجَةُ تَخْتَلِفُ، وَبِهِ جَزَمَ الْمُتَوَلِّي‏.‏

وَقَالَ السُّبْكِيُّ‏:‏ إنَّهُ قَوِيٌّ جِدًّا، وَالْحَدِيثُ وَاقِعَةُ حَالٍ يَحْتَمِلُ أَنَّ التَّقْدِيرَ فِيهَا لِمَا اقْتَضَاهُ حَالُهَا، وَلَوْلَا هَيْبَةُ الْحَدِيثِ وَخَوْفِي سُرْعَةَ تَأْوِيلِهِ وَحَمْلِهِ لَكُنْتُ أَخْتَارُهُ، لَكِنْ أَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِيهِ حَتَّى يَنْشَرِحَ صَدْرِي، وَيَقْذِفَ اللَّهُ فِيهِ نُورَ الْمُرَادِ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ا هـ‏.‏

وَالْمُرَادُ بِالْأَعْلَى الْمُحْيِي قَبْلَ الثَّانِي وَهَكَذَا لَا الْأَقْرَبُ إلَى النَّهْرِ، وَعَبَّرُوا بِذَلِكَ جَرْيًا عَلَى الْغَالِبِ مِنْ أَنَّ مَنْ أَحْيَا بُقْعَةً يَحْرِصُ عَلَى قُرْبِهَا مِنْ الْمَاءِ مَا أَمْكَنَ لِمَا فِيهِ مِنْ سُهُولَةِ السَّقْيِ وَخِفَّةِ الْمُؤْنَةِ وَقُرْبِ عُرُوقِ الْغِرَاسِ مِنْ الْمَاءِ، وَمِنْ هُنَا يُقَدَّمُ الْأَقْرَبُ إلَى النَّهْرِ إنْ أَحْيَوْا دُفْعَةً أَوْ جُهِلَ السَّابِقُ مِنْهُمْ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَإِنْ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ‏:‏ وَلَا يَبْعُدُ الْإِقْرَاعُ، وَخَرَجَ بِضَاقَ مَا إذَا اتَّسَعَ‏:‏ بِأَنْ كَانَ يَكْفِي جَمِيعَهُمْ فَيُرْسِلُ كُلٌّ مِنْهُمْ الْمَاءَ فِي سَاقِيَتِهِ إلَى أَرْضِهِ ‏(‏فَإِنْ كَانَ فِي الْأَرْضِ‏)‏ الْوَاحِدَةِ ‏(‏ارْتِفَاعٌ‏)‏ لِطَرَفٍ مِنْهَا ‏(‏وَانْخِفَاضٌ‏)‏ لِآخَرَ مِنْهَا ‏(‏أُفْرِدَ كُلُّ طَرَفٍ بِسَقْيٍ‏)‏ لِأَنَّهُمَا لَوْ سَقَيَا مَعًا لَزَادَ الْمَاءُ فِي الْمُنْخَفِضَةِ عَلَى الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ، وَطَرِيقُهُ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ أَنْ يَسْقِيَ الْمُنْخَفَضَ حَتَّى يَبْلُغَ الْكَعْبَيْنِ ثُمَّ يَسُدَّهُ ثُمَّ يَسْقِيَ الْمُرْتَفَعَ، وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ السُّبْكِيُّ‏:‏ أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ الْبُدَاءَةُ بِالْأَسْفَلِ، بَلْ لَوْ عُكِسَ جَازَ، وَمُرَادُهُمْ أَنَّهُ لَا يَزِيدُ فِي الْمُسْتَغَلَّةِ عَلَى الْكَعْبَيْنِ، وَصَرَّحَ فِي الِاسْتِقْصَاءِ بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَلَوْ احْتَاجَ الْأَعْلَى إلَى السَّقْيِ مَرَّةً أُخْرَى قَبْلَ وُصُولِهِ لِلْأَسْفَلِ قُدِّمَ‏.‏ وَلَوْ تَنَازَعَا مُتَحَاذِيَانِ بِأَنْ تَحَاذَتْ أَرْضُهُمَا أَوْ أَرَادَا شَقَّ النَّهْرِ مِنْ مَوْضِعَيْنِ مُتَحَاذِيَيْنِ تَعَيَّنَتْ الْقُرْعَةُ؛ إذْ لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَهَذَا كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ إذَا أَحْيَيَا دُفْعَةً أَوْ جُهِلَ أَسْبَقُهُمَا، وَلَا يُنَافِي هَذَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْأَعْلَى فِيمَا إذَا أَحْيَوْا مَعًا أَوْ جُهِلَ الْأَسْبَقُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا قُدِّمَ هُنَاكَ لِقُرْبِهِ مِنْ النَّهْرِ، وَلَا مَزِيَّةَ هُنَا مَعَ أَنَّهُ قِيلَ بِالْإِقْرَاعِ كَمَا مَرَّ، وَلَوْ أَرَادَ شَخْصٌ إحْيَاءَ أَرْضٍ مَوَاتٍ وَسَقْيَهَا مِنْ هَذَا النَّهْرِ، فَإِنْ ضَيَّقَ عَلَى السَّابِقِ مُنِعَ مِنْ الْإِحْيَاءِ؛ لِأَنَّهُمْ اسْتَحَقُّوا أَرْضَهُمْ بِمَرَافِقِهَا وَالْمَاءُ مِنْ أَعْظَمِ مَرَافِقِهَا وَإِلَّا فَلَا مَنْعَ، وَقَضِيَّةُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَتَقَيَّدُ الْمَنْعُ بِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إلَى رَأْسِ النَّهْرِ وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الرَّوْضَةِ خِلَافًا لِابْنِ الْمُقْرِي

تَنْبِيهٌ‏:‏

عِمَارَةُ هَذِهِ الْأَنْهَارِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَلِكُلٍّ مِنْ النَّاسِ بِنَاءُ قَنْطَرَةٍ عَلَيْهَا يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَبِنَاءُ رَحًى عَلَيْهَا إنْ كَانَتْ الْأَنْهَارُ فِي مَوَاتٍ أَوْ فِي مِلْكِهِ، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْعُمْرَانِ جَازَ مُطْلَقًا إنْ كَانَ الْعُمْرَانُ وَاسِعًا، وَبِإِذْنِ الْإِمَامِ إنْ كَانَ ضَيِّقًا، وَيَجُوزُ بِنَاءُ الرَّحَى أَيْضًا إنْ لَمْ يَضُرَّ بِالْمُلَّاكِ وَإِلَّا فَلَا، كَإِشْرَاعِ الْجَنَاحِ فِي الشَّارِعِ فِيهِمَا‏.‏

المتن‏:‏

وَمَا أُخِذَ مِنْ هَذَا الْمَاءِ فِي إنَاءٍ مُلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَمَا أُخِذَ مِنْ هَذَا الْمَاءِ‏)‏ الْمُبَاحِ ‏(‏فِي إنَاءٍ‏)‏ أَوْ حَوْضٍ مَسْدُودِ الْمَنَافِذِ أَوْ بِرْكَةٍ أَوْ حُفْرَةٍ فِي أَرْضٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ‏(‏مُلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ‏)‏ كَالِاحْتِطَابِ وَالِاحْتِشَاشِ وَالِاصْطِيَادِ، وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ فِيهِ الْإِجْمَاعَ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي فَتَاوِيهِ‏:‏ الدُّولَابُ الَّذِي يُدِيرُهُ الْمَاءُ إذَا دَخَلَ الْمَاءُ فِي كِيزَانِهِ مَلَكَهُ صَاحِبُ الدُّولَابِ بِذَلِكَ كَمَا لَوْ اسْتَقَاهُ بِنَفْسِهِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ لَا يَمْلِكُ الْمَاءَ بِحَالٍ، بَلْ يَكُونُ بِحِرْزِهِ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَوْ رَدَّهُ إلَى مَحَلِّهِ لَمْ يَصِرْ شَرِيكًا بِهِ بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ، وَهَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ رَدُّهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَيَاعَ مَالٍ كَمَا لَوْ رَمَى فِي الْبَحْرِ فَلْسًا فَإِنَّهُ يُحَرَّمُ عَلَيْهِ، ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ عَدَمُ الْحُرْمَةِ‏.‏ وَقَدْ سُئِلْتُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَبْلَ ذَلِكَ وَمَا أَجَبْتُ فِيهَا بِشَيْءٍ، وَقَدْ ظَهَرَ لِي الْآنَ عَدَمُ الْحُرْمَةِ لِمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الْمَاءَ لَا يُمَلَّكُ بِحَالٍ‏.‏ وَخَرَجَ بِالْإِنَاءِ وَنَحْوِهِ الدَّاخِلُ فِي مِلْكِهِ بِسَيْلٍ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ بِدُخُولِهِ فِي الْأَصَحِّ، فَلَوْ أَخَذَهُ غَيْرُهُ مَلَكَهُ وَإِنْ كَانَ دُخُولُهُ فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ حَرَامًا، وَمَنْ حَفَرَ نَهْرًا لِيُدْخِلَ فِيهِ الْمَاءَ مِنْ الْوَادِي، فَالْمَاءُ بَاقٍ عَلَى إبَاحَتِهِ، لَكِنَّ مَالِكَ النَّهْرِ أَحَقُّ بِهِ وَلِغَيْرِهِ الشُّرْبُ وَسَقْيُ الدَّوَابِّ وَالِاسْتِعْمَالُ مِنْهُ وَلَوْ بِدَلْوٍ لِجَرَيَانِ الْعُرْفِ بِذَلِكَ‏.‏

المتن‏:‏

وَحَافِرُ بِئْرٍ بِمَوَاتٍ لِلِارْتِفَاقِ أَوْلَى بِمَائِهَا حَتَّى يَرْتَحِلَ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَحَافِرُ بِئْرٍ بِمَوَاتٍ‏)‏ لَا لِلتَّمَلُّكِ بَلْ ‏(‏لِلِارْتِفَاقِ‏)‏ بِهَا لِنَفْسِهِ مُدَّةَ إقَامَتِهِ هُنَاكَ كَمَنْ يَنْزِلُ فِي الْمَوَاتِ وَيَحْفِرُ لِلشُّرْبِ وَسَقْيِ الدَّوَابِّ ‏(‏أَوْلَى بِمَائِهَا‏)‏ مِنْ غَيْرِهِ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ كَسَقْيِ مَاشِيَتِهِ وَزَرْعِهِ ‏(‏حَتَّى يَرْتَحِلَ‏)‏ لِحَدِيثِ ‏{‏مَنْ سَبَقَ إلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إلَيْهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ‏}‏ أَمَّا مَا فَضَلَ عَنْ حَاجَتِهِ قَبْلَ ارْتِحَالِهِ فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُ مَا فَضَلَ عَنْهُ لِشُرْبٍ أَوْ مَاشِيَةٍ، وَلَهُ مَنْعُ غَيْرِهِ مِنْ سَقْيِ الزَّرْعِ بِهِ، فَإِذَا ارْتَحَلَ صَارَ الْبِئْرُ كَالْمَحْفُورَةِ لِلْمَارَّةِ، أَوَّلًا بِقَصْدِ شَيْءٍ، فَإِنْ عَادَ فَهُوَ كَغَيْرِهِ‏.‏ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ‏:‏ هَذَا إذَا ارْتَحَلَ مُعْرِضًا‏.‏ أَمَّا لَوْ كَانَ لِحَاجَةٍ عَازِمًا عَلَى الْعَوْدِ فَلَا إلَّا أَنْ تَطُولَ غَيْبَتُهُ ا هـ‏.‏

وَهُوَ حَسَنٌ، وَإِعْرَاضُهُ عَنْهَا كَارْتِحَالِهِ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الرُّويَانِيِّ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

كَانَ يَنْبَغِي لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ لِارْتِفَاقِ نَفْسِهِ كَمَا قَدَّرْتُهُ فِي كَلَامِهِ لِيُخْرِجَ مَا لَوْ حَفَرَهَا لِارْتِفَاقِ الْمَارَّةِ، فَإِنَّ الْحَافِرَ كَأَحَدِهِمْ أَوْ حَفَرَهَا لَا بِقَصْدِ شَيْءٍ فَإِنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِهَا عَلَى الْأَصَحِّ، بَلْ هُوَ كَوَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ وَتَصِيرُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ النَّاسِ وَإِنْ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِوَقْفٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الصَّيْمَرِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ قَالَا وَلَوْ حَفَرَ لِنَفْسِهِ ثُمَّ أَرَادَ سَدَّهَا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْمَاشِيَةِ بِظُهُورِ مَائِهَا، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ إبْطَالُهُ‏.‏

المتن‏:‏

وَالْمَحْفُورَةُ لِلتَّمَلُّكِ أَوْ فِي مِلْكٍ يَمْلِكُ مَاءَهَا فِي الْأَصَحِّ، وَسَوَاءٌ مَلَكَهُ أَمْ لَا لَا يَلْزَمُهُ بَذْلُ مَا فَضَلَ عَنْ حَاجَتِهِ لِزَرْعٍ، وَيَجِبُ لِمَاشِيَةٍ عَلَى الصَّحِيحِ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَ‏)‏ الْبِئْرُ ‏(‏الْمَحْفُورَةُ‏)‏ فِي الْمَوَاتِ لَا لِلْمَارَّةِ بَلْ ‏(‏لِلتَّمَلُّكِ أَوْ فِي مِلْكٍ يَمْلِكُ‏)‏ الْحَافِرُ ‏(‏مَاءَهَا فِي الْأَصَحِّ‏)‏؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ كَالثَّمَرَةِ وَاللَّبَنِ وَالشَّجَرِ النَّابِتِ فِي مِلْكِهِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ لَا يَمْلِكُهُ لِخَبَرِ ‏{‏النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ‏}‏ السَّابِقِ، وَيَجْرِي الْخِلَافُ كَمَا قَالَ الرُّويَانِيُّ فِي كُلِّ مَا يَنْبُعُ فِي مِلْكِهِ مِنْ نِفْطٍ وَقِيرٍ وَمِلْحٍ وَنَحْوِهَا ‏(‏وَسَوَاءٌ مَلَكَهُ‏)‏ عَلَى الصَّحِيحِ ‏(‏أَمْ لَا‏)‏ عَلَى مُقَابِلِهِ ‏(‏لَا يَلْزَمُهُ بَذْلُ مَا فَضَلَ عَنْ حَاجَتِهِ لِزَرْعٍ‏)‏ وَشَجَرٍ ‏(‏وَيَجِبُ‏)‏ بَذْلُ الْفَاضِلِ مِنْهُ عَنْ شُرْبِهِ لِشُرْبِ غَيْرِهِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَعَنْ مَاشِيَتِهِ وَزَرْعِهِ لِغَيْرِهِ ‏(‏لِمَاشِيَةٍ‏)‏ وَلَوْ أَقَامَ غَيْرُهُ ثَمَّ‏.‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏عَلَى الصَّحِيحِ‏)‏ يُمْكِنُ عَوْدُهُ إلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ لِلزَّرْعِ وَإِلَى الْوُجُوبِ لِلْمَاشِيَةِ فَإِنَّ الْخِلَافَ فِيهِمَا، وَذَلِكَ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ ‏{‏لَا تَمْنَعُوا فَضْلَ الْمَاءِ لِتَمْنَعُوا بِهِ الْكَلَأَ‏}‏ أَيْ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمَاشِيَةَ إنَّمَا تَرْعَى بِقُرْبِ الْمَاءِ فَإِذَا مَنَعَ مِنْ الْمَاءِ فَقَدْ مَنَعَ مِنْ الْكَلَأِ، وَالْمُرَادُ بِالْمَاشِيَةِ هُنَا الْحَيَوَانَاتُ الْمُحْتَرَمَةُ، وَأَطْلَقَ الْمُصَنِّفُ الْحَاجَةَ، وَقَيَّدَهَا الْمَاوَرْدِيُّ بِالنَّاجِزَةِ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَلَوْ فَضَلَ عَنْهُ الْآنَ وَاحْتَاجَ إلَيْهِ فِي ثَانِي الْحَالِ وَجَبَ بَذْلُهُ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَخْلَفُ، هَذَا إنْ كَانَ هُنَاكَ كَلَأٌ مُبَاحٌ وَلَمْ يَجِدْ مَاءً مَبْذُولًا لَهُ وَلَمْ يُحْرِزْهُ فِي إنَاءٍ وَنَحْوِهِ، وَإِلَّا فَلَا يَجِبُ بَذْلُهُ، وَإِنَّمَا وَجَبَ بَذْلُهُ لِلْمَاشِيَةِ دُونَ الزَّرْعِ لِحُرْمَةِ الرُّوحِ، وَقِيلَ‏:‏ يَجِبُ لِلزَّرْعِ كَالْمَاشِيَةِ، وَقِيلَ‏:‏ لَا يَجِبُ لِلْمَاشِيَةِ كَالْمَاءِ الْمُحْرَزِ، وَلَا يَجِبُ بَذْلُ فَضْلِ الْكَلَأِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَخْلَفُ فِي الْحَالِ وَيُتَمَوَّلُ فِي الْعَادَةِ، وَزَمَنُ رَعْيِهِ يَطُولُ بِخِلَافِ الْمَاءِ، وَحَيْثُ لَزِمَهُ بَذْلُ الْمَاءِ لِلْمَاشِيَةِ لَزِمَهُ أَنْ يُمَكِّنَهَا مِنْ وُرُودِ الْبِئْرِ إنْ لَمْ يَضُرَّ بِهِ، فَإِنْ ضَرَّ بِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ تَمْكِينُهَا وَجَازَ لِلرُّعَاةِ اسْتِقَاءُ الْمَاءِ لَهَا، وَبِمَا تَقَرَّرَ عُلِمَ مَا فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مِنْ الْإِجْحَافِ، وَحَيْثُ وَجَبَ الْبَذْلُ لَمْ يَجُزْ أَخْذُ عِوَضٍ عَلَيْهِ وَإِنْ صَحَّ بَيْعُ الطَّعَامِ لِلْمُضْطَرِّ لِصِحَّةِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ فَضْلِ الْمَاءِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَلَا يَجِبُ عَلَى مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْبَذْلُ إعَارَةُ آلَةِ الِاسْتِقَاءِ‏.‏ وَيُشْتَرَطُ فِي بَيْعِ الْمَاءِ التَّقْدِيرُ بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ لَا بِرَيِّ الْمَاشِيَةِ وَالزَّرْعِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَوَازِ الشُّرْبِ مِنْ مَاءِ السِّقَاءِ بِعِوَضٍ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي شُرْبِ الْآدَمِيِّ أَهْوَنُ مِنْهُ فِي شُرْبِ الْمَاشِيَةِ وَالزَّرْعِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

الشُّرْبُ وَسَقْيُ الدَّوَابِّ مِنْ الْجَدَاوِلِ وَالْأَنْهَارِ الْمَمْلُوكَةِ إذَا كَانَ السَّقْيُ لَا يَضُرُّ بِمَالِكِهَا جَائِزٌ إقَامَةً لِلْإِذْنِ الْعُرْفِيِّ مَقَامَ اللَّفْظِيِّ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ‏.‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ نَعَمْ لَوْ كَانَ النَّهْرُ لِمَنْ لَا يُعْتَبَرُ إذْنُهُ كَالْيَتِيمِ وَالْأَوْقَافِ الْعَامَّةِ فَعِنْدِي فِيهِ وَقْفَةٌ وَالظَّاهِرُ الْجَوَازُ‏.‏

المتن‏:‏

وَالْقَنَاةُ الْمُشْتَرَكَةُ يُقْسَمُ مَاؤُهَا بِنَصْبِ خَشَبَةٍ فِي عُرْضِ النَّهْرِ فِيهَا ثُقَبٌ مُتَسَاوِيَةٌ أَوْ مُتَفَاوِتَةٌ عَلَى قَدْرِ الْحِصَصِ، وَلَهُمْ الْقِسْمَةُ مُهَايَأَةً

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَالْقَنَاةُ‏)‏ أَوْ الْعَيْنُ ‏(‏الْمُشْتَرَكَةُ‏)‏ بَيْنَ جَمَاعَةٍ ‏(‏يُقْسَمُ مَاؤُهَا‏)‏ عِنْدَ ضِيقِهِ عَنْهُمْ ‏(‏بِنَصْبِ خَشَبَةٍ‏)‏ مُسْتَوِيَةِ الطَّرَفَيْنِ وَالْوَسَطِ مَوْضُوعَةٍ بِمُسْتَوٍ مِنْ الْأَرْضِ، وَقَوْلُهُ ‏(‏فِي عُرْضِ النَّهْرِ‏)‏ مُتَعَلِّقٌ بِنَصْبِ ‏(‏فِيهَا ثُقَبٌ‏)‏ بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ أَوَّلَهُ بِخَطِّهِ، وَلَوْ قُرِئَتْ بِنُونٍ مَضْمُومَةٍ جَازَ ‏(‏مُتَسَاوِيَةٌ‏)‏ تِلْكَ الثُّقَبِ ‏(‏أَوْ مُتَفَاوِتَةٌ عَلَى قَدْرِ الْحِصَصِ‏)‏ مِنْ الْقَنَاةِ أَوْ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ طَرِيقٌ فِي اسْتِيفَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ حِصَّتَهُ، فَلَوْ كَانَ لِوَاحِدٍ النِّصْفُ وَلِآخَرَ الثُّلُثُ وَلِآخَرَ السُّدُسُ جَعَلَ فِيهَا سِتَّ ثُقَبٍ لِلْأَوَّلِ ثَلَاثَةٌ، وَلِلثَّانِي اثْنَانِ، وَلِلثَّالِثِ وَاحِدٌ، وَيَجُوزُ تَسَاوِي الثُّقَبِ مَعَ تَفَاوُتِ الْحُقُوقِ، كَأَنْ يَأْخُذَ صَاحِبُ الثُّلُثِ ثُقْبَةً وَالْآخَرُ ثُقْبَتَيْنِ، هَذَا إنْ عَلِمَ قَدْرَ الْحِصَصِ، فَإِنْ جَهِلَ قَسَّمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ عَلَى الْأَصَحِّ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الشَّرِكَةَ بِحَسَبِ الْمِلْكِ وَيَصْنَعُ كُلُّ وَاحِدٍ بِنَصِيبِهِ مَا شَاءَ‏.‏ لَكِنْ لَا يَسُوقُهُ لِأَرْضٍ لَا شُرْبَ لَهَا مِنْ النَّهْرِ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ لَهَا شُرْبًا لَمْ يَكُنْ‏.‏ أَمَّا إذَا اتَّسَعَ مَاءُ الْقَنَاةِ أَوْ الْعَيْنِ بِحَيْثُ يَحْصُلُ لِكُلٍّ قَدْرَ حَاجَتِهِ لَمْ يَحْتَجْ لِمَا ذُكِرَ ‏(‏وَلَهُمْ‏)‏ أَيْ‏:‏ الشُّرَكَاءِ ‏(‏الْقِسْمَةُ مُهَايَأَةً‏)‏ وَهِيَ أَمْرٌ يَتَرَاضَوْنَ عَلَيْهِ كَأَنْ يَسْقِيَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَوْمًا أَوْ بَعْضُهُمْ يَوْمًا وَبَعْضُهُمْ أَكْثَرَ بِحَسَبِ حِصَّتِهِ، وَيَسْتَأْنِسُ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ‏}‏ وَكَسَائِرِ الْأَمْلَاكِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمْ الرُّجُوعُ مَتَى شَاءَ، فَإِنْ رَجَعَ وَقَدْ أَخَذَ نَوْبَتَهُ قَبْل أَنْ يَأْخُذَ الْآخَرُ نَوْبَتَهُ، فَعَلَيْهِ أُجْرَةُ نَوْبَتِهِ مِنْ النَّهْرِ لِلْمُدَّةِ الَّتِي أَخَذَ نَوْبَتَهُ فِيهَا، وَيُمْنَعُ أَحَدُهُمْ مِنْ تَوْسِيعِ فَمِ النَّهْرِ وَمِنْ تَضْيِيقِهِ، وَمِنْ تَقْدِيمِ رَأْسِ السَّاقِيَةِ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا الْمَاءُ وَمِنْ تَأْخِيرِهِ، وَمِنْ إجْرَاءِ مَاءٍ يَمْلِكُهُ فِيهِ، وَمِنْ بِنَاءِ قَنْطَرَةٍ وَرَحًى عَلَيْهِ، وَمَنْ غَرَسَ شَجَرًا عَلَى حَافَتِهِ إلَّا بِرِضَا الْبَاقِينَ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَمْلَاكِ الْمُشْتَرَكَةِ وَعِمَارَتُهُ بِحَسَبِ الْمِلْكِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

قَوْلُهُ‏:‏ مُهَايَأَةً مَنْصُوبٌ إمَّا عَلَى الْحَالِ عَلَى الْمُبْتَدَإِ وَهُوَ الْقِسْمَةُ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ الْحَالِ مِنْهُ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ، أَوْ عَلَى أَنَّهَا مَفْعُولٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ بِتَقْدِيرِ‏:‏ وَيُقْسَمُ مُهَايَأَةً، وَيَجُوزُ كَوْنُ الْقِسْمَةِ فَاعِلَةً بِالظَّرْفِ بِنَاءً عَلَى قَوْلِ مَنْ جَوَّزَ عَمَلَ الْجَارِّ بِلَا اعْتِمَادٍ وَهُمْ الْكُوفِيُّونَ، وَعَلَيْهِ فَنَصْبُ مُهَايَأَةً عَلَى الْحَالِ مِنْ الْفَاعِلِ‏.‏

خَاتِمَةٌ‏:‏

لَا يَصِحُّ بَيْعُ مَاءِ الْبِئْرِ وَالْقَنَاةِ مُنْفَرِدًا عَنْهُمَا لِأَنَّهُ يَزِيدُ شَيْئًا فَشَيْئًا وَيَخْتَلِطُ الْمَبِيعُ بِغَيْرِهِ فَيَتَعَذَّرُ التَّسْلِيمُ، فَإِنْ بَاعَهُ بِشَرْطِ أَخْذِهِ الْآنَ صَحَّ، وَلَوْ بَاعَ صَاعًا مِنْ مَاءٍ رَاكِدٍ صَحَّ لِعَدَمِ زِيَادَتِهِ أَوْ مِنْ جَارٍ فَلَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ رَبْطُ الْعَقْدِ بِمِقْدَارٍ مَضْبُوطٍ لِعَدَمِ وُقُوفِهِ، وَلَوْ بَاعَ مَاءَ الْقَنَاةِ مَعَ قَرَارِهِ وَالْمَاءُ جَارٍ لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ فِي الْجَمِيعِ لِلْجَهَالَةِ، وَإِنْ أَفْهَمَ كَلَامُ الرَّوْضَةِ الْبُطْلَانَ فِي الْمَاءِ فَقَطْ عَمَلًا بِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، فَإِنْ اشْتَرَى الْبِئْرَ وَمَاءَهَا الظَّاهِرَ أَوْ جُزْأَيْهِمَا شَائِعًا وَقَدْ عُرِفَ عُمْقُهَا فِيهَا صَحَّ وَمَا يَنْبُعُ فِي الثَّانِيَةِ هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا كَالظَّاهِرِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ اشْتَرَاهَا أَوْ جُزْأَهَا الشَّائِعَ دُونَ الْمَاءِ أَوْ أُطْلِقَ؛ لَا يَصِحُّ لِئَلَّا يَخْتَلِطَ الْمَاءَانِ‏.‏ وَلَوْ سَقَى زَرْعَهُ بِمَاءٍ مَغْصُوبٍ ضَمِنَ الْمَاءَ بِبَدَلِهِ وَالْغَلَّةُ لَهُ، لِأَنَّهُ الْمَالِكُ لِلْبَذْرِ، فَإِنْ غَرِمَ الْبَدَلَ وَتَحَلَّلَ مِنْ صَاحِبِ الْمَاءِ كَانَتْ الْغَلَّةُ أَطْيَبَ لَهُ مِمَّا لَوْ غَرِمَ الْبَدَلَ فَقَطْ، وَلَوْ أَشْعَلَ نَارًا فِي حَطَبٍ مُبَاحٍ لَمْ يَمْنَعْ أَحَدًا الِانْتِفَاعَ بِهَا وَلَا الِاسْتِصْبَاحَ مِنْهَا، فَإِنْ كَانَ الْحَطَبُ لَهُ، فَلَهُ الْمَنْعُ مِنْ الْأَخْذِ مِنْهَا، لَا الِاصْطِلَاءِ بِهَا وَلَا الِاسْتِصْبَاحِ مِنْهَا‏.‏‏.‏ كِتَابُ الْوَقْفِ هُوَ وَالتَّحْبِيسُ وَالتَّسْبِيلُ بِمَعْنًى، وَهُوَ لُغَةً الْحَبْسُ، يُقَالُ‏:‏ وَقَفْت كَذَا‏:‏ أَيْ حَبَسْته، وَلَا يُقَالُ‏:‏ أَوْقَفْته إلَّا فِي لُغَةٍ تَمِيمِيَّةٍ وَهِيَ رَدِيئَةٌ وَعَلَيْهَا الْعَامَّةُ، وَهُوَ عَكْسُ حَبَسَ فَإِنَّ الْفَصِيحَ أَحْبِسُ‏.‏

وَأَمَّا حَبَسَ فَلُغَةٌ رَدِيئَةٌ، وَشَرْعًا‏:‏ حَبْسُ مَالٍ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ بِقَطْعِ التَّصَرُّفِ فِي رَقَبَتِهِ عَلَى مَصْرَفٍ مُبَاحٍ مَوْجُودٍ، وَيُجْمَعُ عَلَى وُقُوفٍ وَأَوْقَافٍ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ‏}‏ فَإِنَّ أَبَا طَلْحَةَ لَمَّا سَمِعَهَا رَغِبَ فِي وَقْفِ بَيْرُحَاءَ وَهِيَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ، وقَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ‏}‏ وَخَبَرُ مُسْلِمٍ‏:‏ ‏{‏إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ‏:‏ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ‏}‏ وَالْوَلَدُ الصَّالِحُ هُوَ الْقَائِمُ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الْعِبَادِ، وَلَعَلَّ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى كَمَالِ الْقَبُولِ‏.‏

وَأَمَّا أَصْلُهُ فَيَكْفِي فِيهِ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا، وَالصَّدَقَةُ الْجَارِيَةُ مَحْمُولَةٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْوَقْفِ كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ فَإِنَّ غَيْرَهُ مِنْ الصَّدَقَاتِ لَيْسَتْ جَارِيَةً، بَلْ يَمْلِكُ الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ أَعْيَانَهَا وَمَنَافِعَهَا نَاجِزًا‏.‏

وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِالْمَنَافِعِ وَإِنْ شَمِلَهَا الْحَدِيثُ فَهِيَ نَادِرَةٌ، فَحَمْلُ الصَّدَقَةِ فِي الْحَدِيثِ عَلَى الْوَقْفِ أَوْلَى، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ ‏{‏أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَصَابَ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَأْمُرُنِي فِيهَا‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ إنْ شِئْت حَبَسْت أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْت بِهَا، فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ عَلَى أَنْ لَا يُبَاعَ أَصْلُهَا وَلَا يُوهَبَ وَلَا يُوَرَّثَ‏}‏ وَهُوَ أَوَّلُ وَقْفٍ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَقَالَ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ‏:‏ مَا بَقِيَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ مَقْدِرَةٌ إلَّا وَقَفَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي الْقَدِيمِ‏:‏ بَلَغَنِي أَنَّ ثَمَانِينَ صَحَابِيًّا مِنْ الْأَنْصَارِ تَصَدَّقُوا بِصَدَقَاتٍ مُحَرَّمَاتٍ، وَالشَّافِعِيُّ يُسَمِّي الْأَوْقَافَ الصَّدَقَاتِ الْمُحَرَّمَاتِ‏.‏ وَأَرْكَانُهُ أَرْبَعَةٌ‏:‏ وَاقِفٌ وَمَوْقُوفٌ وَمَوْقُوفٌ عَلَيْهِ وَصِيغَةٌ‏.‏

كِتَابُ الْوَقْفِ

المتن‏:‏

شَرْطُ الْوَاقِفِ صِحَّةُ عِبَارَتِهِ وَأَهْلِيَّةُ التَّبَرُّعِ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

وَقَدْ شَرَعَ فِي الرُّكْنِ الْأَوَّلِ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏شَرْطُ الْوَاقِفِ صِحَّةُ عِبَارَتِهِ‏)‏ دَخَلَ فِي ذَلِكَ الْكَافِرُ، فَيَصِحُّ مِنْهُ وَلَوْ لِمَسْجِدٍ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْهُ قُرْبَةً اعْتِبَارًا بِاعْتِقَادِنَا، وَإِنْ قَالَ الْوَاحِدِيُّ‏:‏ لَا يَصِحُّ مِنْهُ اعْتِبَارًا بِاعْتِقَادِهِ، وَخَرَجَ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ فَلَا يَصِحُّ وَقْفُهُمَا، وَدَخَلَ فِي قَوْلِهِ ‏(‏وَأَهْلِيَّةُ التَّبَرُّعِ‏)‏ الْمُبَعَّضُ وَالْمَرِيضُ مَرَضَ الْمَوْتِ، وَيُعْتَبَرُ وَقْفُهُ مِنْ الثُّلُثِ، وَخَرَجَ الْمُكَاتَبُ وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ أَوْ فَلَسٍ وَلَوْ بِمُبَاشَرَةِ الْوَلِيِّ، وَهَذَا الشَّرْطُ يُغْنِي عَنْ الْأَوَّلِ؛ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ صِحَّةُ الْعِبَارَةِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُخْتَارًا فَلَا يَصِحُّ مِنْ مُكْرَهٍ، وَلَا يُعْتَبَرُ كَوْنُ الْوَقْفِ مَعْلُومًا لِلْوَاقِفِ فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ وَقْفِ مَا لَمْ يَرَهُ، وَهُوَ مَا صَحَّحَهُ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ تَبَعًا لِابْنِ الصَّلَاحِ وَقَالَ‏:‏ لَا خِيَارَ لَهُ إذَا رَآهُ، وَعَلَى هَذَا يَصِحُّ وَقْفُ الْأَعْمَى، وَهُوَ كَذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِهِ فِيمَا عَلِمْت‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

كَانَ يَنْبَغِي لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ‏:‏ وَأَهْلِيَّةُ التَّبَرُّعِ فِي الْحَيَاةِ فَإِنَّ السَّفِيهَ أَهْلٌ لِلتَّبَرُّعِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ وَقْفُهُ‏.‏ نَعَمْ لَوْ قَالَ‏:‏ وَقَفْت دَارِي عَلَى الْفُقَرَاءِ بَعْدَ مَوْتِي صَحَّ؛ لِأَنَّهُ تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ‏.‏

المتن‏:‏

وَالْمَوْقُوفِ دَوَامُ الِانْتِفَاعِ بِهِ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

ثُمَّ شَرَعَ فِي شَرْطِ الرُّكْنِ الثَّانِي، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏وَ‏)‏ شَرْطُ ‏(‏الْمَوْقُوفِ‏)‏ مَعَ كَوْنِهِ عَيْنًا مُعَيَّنَةً مَمْلُوكَةً مِلْكًا يَقْبَلُ النَّقْلَ وَيَحْصُلُ مِنْهَا فَائِدَةٌ أَوْ مَنْفَعَةٌ يَسْتَأْجِرُ لَهَا ‏(‏دَوَامُ الِانْتِفَاعِ بِهِ‏)‏ انْتِفَاعًا مُبَاحًا مَقْصُودًا، فَخَرَجَ بِالْعَيْنِ الْمَنْفَعَةُ وَالْوَقْفُ الْمُلْتَزَمُ فِي الذِّمَّةِ كَمَا سَيَأْتِي، وَبِالْمُعَيَّنَةِ وَقْفُ أَحَدِ دَارَيْهِ، وَبِالْمَمْلُوكَةِ مَا لَا يَمْلِكُ، وَاسْتَثْنَى مِنْ اعْتِبَارِ الْمِلْكِ وَقْفَ الْإِمَامِ شَيْئًا مِنْ أَرْضِ بَيْتِ الْمَالِ؛ فَإِنَّهُ يَصِحُّ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَإِنْ تَوَقَّفَ فِيهِ السُّبْكِيُّ سَوَاءٌ أَكَانَ عَلَى مُعَيَّنٍ أَمْ جِهَةٍ عَامَّةٍ، وَأَفْتَى بِهِ الْمُصَنِّفُ وَأَفْتَى بِهِ أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي عَصْرُونَ لِلسُّلْطَانِ نُورِ الدِّينِ الشَّهِيدِ مُتَمَسِّكًا بِوَقْفِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ سَوَادَ الْعِرَاقِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي فَوَائِدِ رِحْلَتِهِ عَنْ عَشَرَةٍ أَوْ يَزِيدُونَ ثُمَّ وَافَقَهُمْ عَلَى صِحَّتِهِ، وَنَقَلَ صَاحِبُ الْمَطْلَبِ فِي بَابِ قَسْمِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ صِحَّتَهُ عَنْ النَّصِّ، وَفِي الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ‏:‏ لَوْ رَأَى الْإِمَامُ وَقْفَ أَرْضِ الْغَنِيمَةِ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ؛ جَازَ إذَا اسْتَطَابَ قُلُوبَ الْغَانِمِينَ فِي النُّزُولِ عَنْهَا بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِهِ، وَبِقَبُولِ النَّقْلِ أُمُّ الْوَلَدِ وَالْحَمْلُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ وَقْفُهُ مُنْفَرِدًا وَإِنْ صَحَّ عِتْقُهُ‏.‏ نَعَمْ إنْ وَقَفَ حَامِلًا صَحَّ فِيهِ تَبَعًا لِأُمِّهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ الرَّوْضِ، وَإِنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَالْمُرَادُ بِالْفَائِدَةِ اللَّبَنُ وَالثَّمَرَةُ وَنَحْوُهُمَا، وَبِالْمَنْفَعَةِ السُّكْنَى وَاللُّبْسُ وَنَحْوُهُمَا وَبِيَسْتَأْجِرُ لَهَا وَبِدَوَامِ الِانْتِفَاعِ الطَّعَامُ وَنَحْوُهُ كَمَا سَيَأْتِي، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ وَقْفُ الْفَحْلِ لِلضِّرَابِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ وَلَا تَجُوزُ إجَارَتُهُ، وَمِنْ دَوَامِ الِانْتِفَاعِ الْمُدَبَّرُ وَالْمُعَلَّقُ عِتْقُهُ بِصِفَةٍ فَإِنَّهُ يَصِحُّ وَقْفُهُمَا مَعَ أَنَّهُ لَا يَدُومُ النَّفْعُ بِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا يُعْتَقَانِ بِمَوْتِ السَّيِّدِ وَوُجُودِ الصِّفَةِ وَيَبْطُلُ الْوَقْفُ‏.‏ وَبِمُبَاحًا وَقْفُ آلَاتِ الْمَلَاهِي فَلَا يَصِحُّ وَقْفُهَا، وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَنْفَعَةٌ قَائِمَةٌ، لِأَنَّهَا غَيْرُ مُبَاحَةٍ، وَبِمَقْصُودًا وَقْفُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِلتَّزْيِينِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ عَلَى الْأَصَحِّ الْمَنْصُوصِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

يَصِحُّ الْوَقْفُ بِالشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَإِنْ انْتَفَى النَّفْعُ حَالًا كَوَقْفِ عَبْدٍ وَجَحْشٍ صَغِيرَيْنِ وَزَمِنٍ يُرْجَى بُرْؤُهُ، وَكَمَنْ آجَرَ أَرْضًا ثُمَّ وَقَفَهَا، وَهَذِهِ حِيلَةٌ لِمَنْ يُرِيدُ إبْقَاءَ مَنْفَعَةِ الشَّيْءِ الْمَوْقُوفِ لِنَفْسِهِ مُدَّةً بَعْدَ وَقْفِهِ‏.‏

المتن‏:‏

لَا مَطْعُومٌ وَرَيْحَانٌ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏لَا مَطْعُومٌ وَرَيْحَانٌ‏)‏ بِرَفْعِهِمَا، فَلَا يَصِحُّ وَقْفُهُمَا وَلَا مَا فِي مَعْنَاهُمَا، لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْمَطْعُومِ فِي اسْتِهْلَاكِهِ، وَعَلَّلَ فِي الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا عَدَمُ صِحَّةِ وَقْفِ الرَّيْحَانِ بِسُرْعَةِ فَسَادِهِ، وَقَضِيَّتُهُ تَخْصِيصُهُ بِالرَّيَاحِينِ الْمَحْصُودَةِ‏.‏ أَمَّا الْمَزْرُوعَةُ فَيَصِحُّ وَقْفُهَا لِلشَّمِّ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي شَرْحِ الْوَسِيطِ أَنَّهُ الظَّاهِرُ لِأَنَّهُ يَبْقَى مُدَّةً، وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ أُخْرَى وَهِيَ التَّنَزُّهُ، وَقَالَ الْخُوَارِزْمِيُّ وَابْنُ الصَّلَاحِ‏:‏ يَصِحُّ وَقْفُ الْمَشْمُومِ الدَّائِمِ نَفْعُهُ كَالْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ وَالْعُودِ، وَيُطْلَقُ الرَّيْحَانُ عَلَى كُلِّ نَبْتٍ رَطْبٍ غَضٍّ طَيِّبِ الرِّيحِ، فَيَدْخُلُ الْوَرْدُ لِرِيحِهِ‏.‏

المتن‏:‏

وَيَصِحُّ وَقْفُ عَقَارٍ وَمَنْقُولٍ

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَيَصِحُّ وَقْفُ عَقَارٍ‏)‏ مِنْ أَرْضٍ أَوْ دَار بِالْإِجْمَاعِ ‏(‏وَ‏)‏ وَقْفُ ‏(‏مَنْقُولٍ‏)‏ كَعَبْدٍ وَثَوْبٍ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏{‏وَأَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا فَإِنَّهُ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْبُدَهُ‏}‏ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَأَعْبُدَهُ رَوَاهُ الْمُتَوَلِّي بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ جَمْعُ عَبْدٍ‏.‏

وَقَالَ السُّبْكِيُّ‏:‏ الصَّوَابُ أَعْتُدَهُ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ جَمْعُ عَتَادٍ، وَهُوَ كُلُّ مَا أَعَدَّهُ مِنْ السِّلَاحِ وَالدَّوَابِّ كَمَا قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ وَجَمَاعَةٌ‏.‏ وَاتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ فِي الْأَعْصَارِ عَلَى وَقْفِ الْحُصْرِ وَالْقَنَادِيلِ وَالزَّلَالِيِّ فِي الْمَسَاجِدِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ‏.‏

المتن‏:‏

وَمُشَاعٌ لَا عَبْدٌ وَثَوْبٌ فِي الذِّمَّةِ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَ‏)‏ وَقْفُ ‏(‏مُشَاعٍ‏)‏ مِنْ عَقَارٍ أَوْ مَنْقُولٍ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَقَفَ مِائَةَ سَهْمٍ مِنْ خَيْبَرَ مُشَاعًا، رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، وَلَا يَسْرِي إلَى الْبَاقِي؛ لِأَنَّهَا مِنْ خَوَاصِّ الْعِتْقِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

ظَاهِرُ كَلَامِهِ كَغَيْرِهِ أَنَّهُ يَصِحُّ وَقْفُ الْمُشَاعِ مَسْجِدًا وَبِهِ صَرَّحَ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَقَالَ‏:‏ يَحْرُمُ الْمُكْثُ فِيهِ عَلَى الْجُنُبِ تَغْلِيبًا لِلْمَنْعِ وَتَجِبُ الْقِسْمَةُ لِتَعَيُّنِهَا طَرِيقًا‏.‏ قَالَ السُّبْكِيُّ‏:‏ وَالْقَوْلُ بِوُجُوبِهَا مُخَالِفٌ لِلْمَذْهَبِ الْمَعْرُوفِ يَعْنِي مَنْ مَنَعَ قِسْمَةَ الْوَقْفِ مِنْ الْمُطْلَقِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ نَقْلٌ صَرِيحٌ بِخُصُوصِهِ، وَأَفْتَى الْبَارِزِيُّ بِجَوَازِ الْمُكْثِ فِيهِ مَا لَمْ يُقْسِمْ، كَمَا يَجُوزُ لِلْجُنُبِ حَمْلُ الْمُصْحَفِ مَعَ الْأَمْتِعَةِ، وَاعْتَرَضَهُ السُّبْكِيُّ بِأَنَّ مَحَلَّ جَوَازِ حَمْلِ الْمُصْحَفِ مَعَ الْأَمْتِعَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا ا هـ‏.‏

وَكَلَامُ ابْنِ الصَّلَاحِ هُوَ الظَّاهِرُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ شُهْبَةَ، وَتُسْتَثْنَى هَذِهِ الصُّورَةُ مِنْ مَنْعِ قِسْمَةِ الْوَقْفِ مِنْ الْمُطْلَقِ لِلضَّرُورَةِ‏:‏ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ مَسْجِدًا هُوَ الْأَقَلُّ أَمْ لَا‏.‏ فَإِنْ قِيلَ‏:‏ يَنْبَغِي عَدَمُ حُرْمَةِ الْمُكْثِ فِيمَا إذَا كَانَ الْمَوْقُوفُ مَسْجِدًا أَقَلَّ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ حَمْلُ التَّفْسِيرِ إذَا كَانَ الْقُرْآنُ أَقَلَّ عَلَى الْمُحْدِثِ‏.‏‏.‏ أُجِيبَ بِأَنَّ الْمَسْجِدِيَّةَ هُنَا شَائِعَةٌ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ غَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ فِي شَيْءٍ مِنْهَا فَلَمْ يُمْكِنْ تَبَعِيَّةُ الْأَقَلِّ لِلْأَكْثَرِ؛ إذْ لَا تَبَعِيَّةَ إلَّا مَعَ التَّمْيِيزِ بِخِلَافِ الْقُرْآنِ؛ فَإِنَّهُ مُتَمَيِّزٌ عَنْ التَّفْسِيرِ فَاعْتُبِرَ الْأَكْثَرُ لِيَكُونَ الْبَاقِي تَابِعًا، وَمَرَّ فِي بَابِ الِاعْتِكَافِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ فِيهِ ‏(‏لَا عَبْدٍ وَثَوْبٍ‏)‏ مَثَلًا ‏(‏فِي الذِّمَّةِ‏)‏ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ ذِمَّتُهُ وَذِمَّةُ غَيْرِهِ كَأَنْ يَكُونَ لَهُ فِي ذِمَّةِ غَيْرِهِ عَبْدٌ أَوْ ثَوْبٌ بِسَلَمٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلَا يَصِحُّ وَقْفُهُمَا؛ إذْ لَا مِلْكَ وَالْوَقْفُ إزَالَةُ مِلْكٍ عَنْ عَيْنٍ‏.‏ نَعَمْ يَصِحُّ وَقْفُهُمَا بِالْتِزَامِ نَذْرٍ فِي ذِمَّةِ النَّاذِرِ كَقَوْلِهِ‏:‏ لِلَّهِ عَلَيَّ وَقْفُ عَبْدٍ أَوْ ثَوْبٍ مَثَلًا ثُمَّ يُعَيِّنُهُ بَعْدَ ذَلِكَ‏.‏

المتن‏:‏

وَلَا وَقْفُ حُرِّ نَفْسِهِ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَلَا‏)‏ يَصِحُّ ‏(‏وَقْفُ حُرِّ نَفْسِهِ‏)‏؛ لِأَنَّ رَقَبَتَهُ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ، كَمَا لَا يَهَبُ نَفْسَهُ، وَلَا يَصِحُّ وَقْفُ الْمَنْفَعَةِ دُونَ الرَّقَبَةِ مُؤَقَّتَةً كَانَتْ - كَالْإِجَارَةِ - أَوْ مُؤَبَّدَةً - كَالْوَصِيَّةِ - لِأَنَّ الرَّقَبَةَ أَصْلٌ، وَالْمَنْفَعَةَ فَرْعٌ، وَالْفَرْعُ يَتْبَعُ الْأَصْلَ‏.‏

المتن‏:‏

وَكَذَا مُسْتَوْلَدَةٌ وَكَلْبٌ مُعَلَّمٌ وَأَحَدُ عَبْدَيْهِ فِي الْأَصَحِّ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَكَذَا مُسْتَوْلَدَةٌ وَكَلْبٌ مُعَلَّمٌ‏)‏ أَوْ قَابِلٌ لِلتَّعْلِيمِ كَمَا بَحَثَهُ السُّبْكِيُّ ‏(‏وَأَحَدُ عَبْدَيْهِ‏)‏ لَا يَصِحُّ وَقْفُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ‏(‏فِي الْأَصَحِّ‏)‏ لِأَنَّ الْمُسْتَوْلَدَةَ آيِلَةٌ إلَى الْعِتْقِ وَلَيْسَتْ قَابِلَةً لِلنَّقْلِ إلَى الْغَيْرِ، وَبِهَذَا فَارَقَتْ صِحَّةُ وَقْفِ الْمُعَلَّقِ عِتْقُهُ بِصِفَةٍ، وَالْكَلْبُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ وَأَحَدُ الْعَبْدَيْنِ مُبْهَمٌ‏.‏ وَالثَّانِي يَصِحُّ فِي أُمِّ الْوَلَدِ قِيَاسًا عَلَى صِحَّةِ إجَارَتِهَا، وَفِي الْكَلْبِ كَذَلِكَ عَلَى رَأْيٍ، وَفِي أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ قِيَاسًا عَلَى عِتْقِهِ، وَفَرَّقَ الْأَوَّلَ بِأَنَّ الْعِتْقَ أُنْفِذَ بِدَلِيلِ سَرَايَتِهِ وَتَعْلِيقِهِ‏.‏ أَمَّا غَيْرُ الْمُعَلَّمِ وَالْقَابِلُ لِلتَّعْلِيمِ فَلَا يَصِحُّ وَقْفُهُ جَزْمًا‏.‏

المتن‏:‏

وَلَوْ وَقَفَ بِنَاءً أَوْ غَرْسًا فِي أَرْضٍ مُسْتَأْجَرَةٍ لَهُمَا فَالْأَصَحُّ جَوَازُهُ

الشَّرْحُ‏:‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

وَقَفَ بِنَاءً أَوْ غَرْسًا فِي أَرْضٍ مُسْتَأْجَرَةٍ لَهُمَا أَوْ مُسْتَعَارَةٍ كَذَلِكَ أَوْ مُوصًى لَهُ بِمَنْفَعَتِهَا ‏(‏وَلَوْ وَقَفَ بِنَاءً أَوْ غَرْسًا فِي أَرْضٍ مُسْتَأْجَرَةٍ لَهُمَا‏)‏ أَوْ مُسْتَعَارَةٍ كَذَلِكَ، أَوْ مُوصًى لَهُ بِمَنْفَعَتِهَا ‏(‏فَالْأَصَحُّ جَوَازُهُ‏)‏ سَوَاءٌ أَكَانَ الْوَقْفُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ أَمْ بَعْدَهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ الصَّلَاحِ، أَوْ بَعْدَ رُجُوعِ الْمُعِيرِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَمْلُوكٌ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ، وَيَكْفِي دَوَامُهُ إلَى الْقَلْعِ بَعْدَ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ أَوْ رُجُوعِ الْمُعِيرِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ الْمَنْعُ؛ لِأَنَّهُ مُعَرَّضٌ لِلْقَلْعِ فَكَأَنَّهُ وَقَفَ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَوْ غَرَسَ أَوْ بَنَى بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ أَوْ رُجُوعِ الْمُعِيرِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ وَقْفُهُ وَهُوَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَوْضُوعٍ بِحَقٍّ وَلِذَا قَالَ شَيْخُنَا فِي مَنْهَجِهِ‏:‏ وَبِنَاءٌ وَغِرَاسٌ وُضِعَا بِأَرْضٍ بِحَقٍّ ا هـ‏.‏

وَلَوْ قَلَعَ الْبِنَاءَ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ أَوْ رُجُوعِ الْمُعِيرِ بَقِيَ وَقْفًا كَمَا كَانَ إنْ نَفَعَ، فَإِنْ لَمْ يَنْفَعْ فَهَلْ يَصِيرُ مِلْكًا لِلْوَاقِفِ أَوْ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ‏؟‏ وَجْهَانِ‏:‏ قَالَ الْإِسْنَوِيُّ‏:‏ وَالصَّحِيحُ غَيْرُهُمَا وَهُوَ شِرَاءُ عَقَارٍ أَوْ جُزْءٍ مِنْ عَقَارٍ، وَيُقَاسُ بِالْبِنَاءِ فِي ذَلِكَ الْغِرَاسِ‏.‏

وَقَالَ السُّبْكِيُّ‏:‏ الْوَجْهَانِ بَعِيدَانِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ‏:‏ الْوَقْفُ بَاقٍ بِحَالِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ، لِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَاهُ مِلْكًا لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ أَوْ لِلْوَاقِفِ لَجَازَ بَيْعُهُ وَبَيْعُ الْوَقْفِ مُمْتَنِعٌ ا هـ‏.‏

وَكَلَامُ الْإِسْنَوِيِّ هُوَ الظَّاهِرُ إنْ كَانَ الْغِرَاسُ مَا بَقِيَ يَصْلُحُ إلَّا لِلْإِحْرَاقِ وَصَارَتْ آلَةُ الْبِنَاءِ لَا تَصْلُحُ لَهُ وَإِلَّا فَكَلَامُ السُّبْكِيّ وَأَرْشُ النَّقْصِ الْحَاصِلِ بِقَطْعِ الْمَوْقُوفِ يَسْلُكُ بِهِ مَسْلَكَهُ فَيَشْتَرِي بِهِ شَيْئًا وَيُوقَفُ عَلَى تِلْكَ الْجِهَةِ‏.‏

فَرْعٌ‏:‏

لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ صَرْفَ أُجْرَةِ الْأَرْضِ الْمُسْتَأْجَرَةِ مِنْ رِيعِ الْمَوْقُوفِ هَلْ يَصِحُّ الْوَقْفُ أَوْ لَا‏؟‏ قِيلَ‏:‏ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَقَفَ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ‏:‏ الظَّاهِرُ الصِّحَّةُ، وَوَقْفُ الْبِنَاءِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ أُجْرَةِ الْقَرَارِ، فَإِذَا شَرَطَ صَرْفَ الْأُجْرَةِ مِنْ رِيعِهِ فَقَدْ شَرَطَ مَا يُوَافِقُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَلَا يُنَافِيهِ شَرْعًا‏.‏ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ‏:‏ وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ الْأُسْتَاذِ بِأَنَّ الْأُجْرَةَ مِنْ رِيعِ الْوَقْفِ إنْ شَرَطَ الْوَاقِفُ ذَلِكَ أَوْ سَكَتَ عَنْهُ ا هـ‏.‏

وَمَا بَحَثَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَقَالَهُ ابْنُ الْأُسْتَاذِ غَيْرُ الصُّورَةِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا؛ لِأَنَّ تِلْكَ فِي إجَارَةٍ اسْتَأْجَرَهَا الْوَاقِفُ قَبْلَ الْوَقْفِ، وَلَزِمَتْ الْأُجْرَةُ ذِمَّتَهُ‏:‏ وَمَا قَالَاهُ فِي أُجْرَةِ الْمِثْلِ إذَا بَقِيَ الْمَوْقُوفُ بِهَا، وَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى إنَّهُ إنْ شَرَطَ أَنْ يُوَفِّيَ مِنْهُ مَا مَضَى مِنْ الْأُجْرَةِ فَالْبُطْلَانُ أَوْ الْمُسْتَقْبَلُ فَالصِّحَّةُ، وَكَذَا إنْ أَطْلَقَ وَيُحْمَلُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ‏.‏ فَإِنْ قِيلَ‏:‏ الْأُجْرَةُ لَازِمَةٌ لِذِمَّتِهِ عَلَى حَالٍ قَبْلَ الْوَقْفِ‏.‏ أُجِيبَ بِأَنَّهَا إنَّمَا تَسْتَقِرُّ شَيْئًا فَشَيْئًا بِحَسَبِ مَا يَمْضِي مِنْ الزَّمَانِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

قَوْلُهُ‏:‏ لَهُمَا أَيْ لِلْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ‏.‏

المتن‏:‏

فَإِنْ وَقَفَ عَلَى مُعَيَّنٍ وَاحِدٍ أَوْ جَمْعٍ اُشْتُرِطَ إمْكَانُ تَمْلِيكِهِ فَلَا يَصِحُّ عَلَى جَنِينٍ

الشَّرْحُ‏:‏

ثُمَّ شَرَعَ فِي رُكْنِ الثَّالِثِ وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ‏:‏ مُعَيَّنٍ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ بَدَأَ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏فَإِنْ وَقَفَ عَلَى مُعَيَّنٍ‏)‏ مِنْ ‏(‏وَاحِدٍ‏)‏ أَوْ اثْنَيْنِ ‏(‏أَوْ جَمْعٍ اُشْتُرِطَ إمْكَانُ تَمْلِيكِهِ‏)‏ فِي حَالِ الْوَقْفِ عَلَيْهِ بِوُجُودِهِ فِي الْخَارِجِ، فَلَا يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى وَلَدِهِ وَهُوَ لَا وَلَدَ لَهُ، وَلَا عَلَى فَقِيرِ أَوْلَادِهِ وَلَا فَقِيرَ فِيهِمْ، فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ فَقِيرٌ وَغَنِيٌّ صَحَّ، وَيُعْطِي مِنْهُ أَيْضًا مَنْ افْتَقَرَ بَعْدُ كَمَا قَالَهُ الْبَغَوِيّ، وَبِكَوْنِهِ أَهْلًا لِتَمَلُّكِ الْمَوْقُوفِ، ‏(‏فَلَا يَصِحُّ‏)‏ الْوَقْفُ ‏(‏عَلَى جَنِينٍ‏)‏ لِعَدَمِ صِحَّةِ تَمَلُّكِهِ وَسَوَاءٌ أَكَانَ مَقْصُودًا أَمْ تَابِعًا حَتَّى لَوْ كَانَ لَهُ أَوْلَادٌ وَلَهُ جَنِينٌ عِنْدَ الْوَقْفِ لَمْ يَدْخُلْ، نَعَمْ إنْ انْفَصَلَ دَخَلَ مَعَهُمْ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَاقِفُ قَدْ سَمَّى الْمَوْجُودِينَ أَوَذَكَرَ عَدَدَهُمْ فَلَا يَدْخُلُ كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

قَدْ عُلِمَ مِمَّا ذُكِرَ أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى الْمَيِّتِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ وَبِهِ صَرَّحَ الْجُرْجَانِيِّ، وَلَا عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الشَّخْصَيْنِ لِعَدَمِ تَعْيِينِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ

المتن‏:‏

وَلَا عَلَى الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ، فَلَوْ أَطْلَقَ الْوَقْفَ عَلَيْهِ فَهُوَ وَقْفٌ عَلَى سَيِّدِهِ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَلَا‏)‏ يَصِحُّ ‏(‏عَلَى الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ‏)‏ أَيْ نَفْسِ الْعَبْدِ سَوَاءٌ أَكَانَ لَهُ أَمْ لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِلْمِلْكِ ‏(‏فَلَوْ أَطْلَقَ الْوَقْفَ عَلَيْهِ‏)‏ فَإِنْ كَانَ لَهُ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ لِلْوَاقِفِ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ ‏(‏فَهُوَ وَقْفٌ عَلَى سَيِّدِهِ‏)‏ كَمَا فِي الْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُعَلَّقِ عِتْقَهُ بِصِفَةٍ، حُكْمُهُمْ كَذَلِكَ‏.‏

وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَإِنْ كَانَ مُكَاتَبَ نَفْسِهِ لَمْ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَيْهِ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ نَظِيرُ مَا فِي إعْطَاءِ الزَّكَاةِ لَهُ، أَوْ مُكَاتَبَ غَيْرِهِ صَحَّ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ أَيْضًا وَجَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي لِأَنَّهُ يَمْلِكُ، فَإِنْ عَجَزَ بَانَ أَنَّ الْوَقْفَ مُنْقَطِعُ الِابْتِدَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَرْجِعُ مِنْهُ مَا أَخَذَهُ، وَإِنْ عَتَقَ وَقَدْ قَيَّدَ الْوَقْفَ بِمُدَّةِ الْكِتَابَةِ بَانَ أَنَّهُ مُنْقَطِعُ الِانْتِهَاءِ فَيَبْطُلُ اسْتِحْقَاقُهُ وَيَنْتَقِلُ الْوَقْفُ إلَى مَنْ بَعْدَهُ، فَإِنْ أَطْلَقَهُ دَامَ اسْتِحْقَاقُهُ، وَفِي مَعْنَى التَّقْيِيدِ مَا لَوْ عَبَّرَ بِمُكَاتَبِ فُلَانٍ‏.‏

وَأَمَّا الْوَقْفُ عَلَى الْمُبَعَّضِ فَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا أَنَّهُ إنْ كَانَ مُهَايَأَةً وَصَدَرَ الْوَقْفُ عَلَيْهِ يَوْمَ نَوْبَتِهِ فَكَالْحُرِّ، أَوْ يَوْمَ نَوْبَةِ سَيِّدِهِ فَكَالْعَبْدِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُهَايَأَةً وُزِّعَ عَلَى الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ إطْلَاقُ ابْنِ خَيْرٍ أَنَّ صِحَّةَ الْوَقْفِ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَرَادَ مَالِكُ الْمُبَعَّضِ أَنْ يَقِفَ نِصْفَهُ الرَّقِيقَ عَلَى نِصْفِ الْحُرِّ فَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ السُّبْكِيُّ الصِّحَّةُ كَمَا لَوْ أَوْصَى بِهِ لِنِصْفِهِ الْحُرِّ، وَيَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى الْأَرِقَّاءِ الْمَوْقُوفِينَ لِخِدْمَةِ الْكَعْبَةِ وَنَحْوِهَا كَقَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ كَالْوَقْفِ عَلَى عَلَفِ الدَّوَابِّ الْمُرْصَدَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى الدَّارِ وَإِنْ قَالَ عَلَى عِمَارَتِهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تُمَلَّكُ إلَّا إنْ قَالَ‏:‏ وَقَفْت هَذَا عَلَى هَذِهِ الدَّارِ لِطَارِقِهَا؛ لِأَنَّ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ حَقِيقَةً طَارِقُوهَا وَهُمْ يَمْلِكُونَ وَإِلَّا إنْ كَانَتْ مَوْقُوفَةً؛ لِأَنَّ حِفْظَ عِمَارَتِهَا قُرْبَةٌ، فَهُوَ كَالْوَقْفِ عَلَى مَسْجِدٍ أَوْ رِبَاطٍ‏.‏

المتن‏:‏

وَلَوْ أَطْلَقَ الْوَقْفَ عَلَى بَهِيمَةٍ لَغَا، وَقِيلَ هُوَ وَقْفٌ عَلَى مَالِكِهَا

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَلَوْ أَطْلَقَ الْوَقْفَ عَلَى بَهِيمَةٍ‏)‏ مَمْلُوكَةٍ أَوْ قَيَّدَهُ بِعَلَفِهَا ‏(‏لَغَا‏)‏ الْوَقْفُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ أَهْلًا لِلْمِلْكِ بِحَالٍ، كَمَا لَا تَصِحُّ الْهِبَةُ لَهَا وَلَا الْوَصِيَّةُ ‏(‏وَقِيلَ‏:‏ هُوَ‏)‏ فِي الْمَعْنَى ‏(‏وَقْفٌ عَلَى مَالِكِهَا‏)‏ فَيَصِحُّ كَالْوَقْفِ عَلَى الْعَبْدِ، وَفَرَّقَ الْأَوَّلُ بِمَا مَرَّ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ أَهْلٌ لَهُ بِتَمْلِيكِ سَيِّدِهِ فِي قَوْلٍ، فَإِنْ قَصَدَ مَالِكُهَا فَهُوَ وَقْفٌ عَلَيْهِ، وَخَرَجَ بِالْمَمْلُوكَةِ الْمَوْقُوفَةُ كَالْخَيْلِ الْمَوْقُوفَةِ فِي الثُّغُورِ وَنَحْوِهَا، فَيَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى عَلَفِهَا كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ‏.‏

وَأَمَّا الْمُبَاحَةُ كَالْوُحُوشِ وَالطُّيُورِ الْمُبَاحَةِ، فَلَا يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَيْهَا جَزْمًا‏.‏ نَعَمْ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ الْغَزَالِيُّ حَمَامُ مَكَّةَ فَيَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَيْهِ‏.‏

المتن‏:‏

وَيَصِحُّ عَلَى ذِمِّيٍّ

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَيَصِحُّ‏)‏ الْوَقْفُ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ ‏(‏عَلَى ذِمِّيٍّ‏)‏ مُعَيَّنٍ كَصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ وَهِيَ جَائِزَةٌ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْوَقْفِ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَظْهَرَ فِيهِ قَصْدُ مَعْصِيَةٍ، فَلَوْ قَالَ‏:‏ وَقَفْت عَلَى خَادِمِ الْكَنِيسَةِ لَمْ يَصِحَّ كَمَا لَوْ وَقَفَ عَلَى حُصْرِهَا كَمَا قَالَهُ فِي الشَّامِلِ وَغَيْرِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُمْكِنُ تَمْلِيكُهُ فَيَمْتَنِعُ وَقْفُ الْمُصْحَفِ وَكُتُبِ الْعِلْمِ وَالْعَبْدِ الْمُسْلِمِ عَلَيْهِ وَالْجَمَاعَةُ الْمُعَيَّنُونَ كَالْوَاحِدِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي الْوَقْفِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ الْيَهُودِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ‏.‏ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ‏:‏ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمُعَاهَدُ، وَالْمُسْتَأْمَنُ كَالذِّمِّيِّ إنْ حَلَّ بِدَارِنَا مَا دَامَ فِيهَا، فَإِذَا رَجَعَ صُرِفَ إلَى مَنْ بَعْدَهُ‏.‏

وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ مُقْتَضَى كَلَامِهِمْ أَنَّهُ كَالْحَرْبِيِّ، وَجَزَمَ بِهِ الدَّمِيرِيُّ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِمَا لَوْ لَحِقَ الذِّمِّيُّ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ بِدَارِ الْحَرْبِ مَاذَا يَفْعَلُ بِغَلَّةِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ تُصْرَفَ إلَى مَنْ بَعْدَهُ أَخْذًا مِنْ كَلَامِ الْأَذْرَعِيِّ الْمُتَقَدِّمِ‏.‏

المتن‏:‏

لَا مُرْتَدٍّ وَحَرْبِيٍّ وَنَفْسِهِ فِي الْأَصَحِّ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

وَ ‏(‏لَا‏)‏ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى ‏(‏مُرْتَدٍّ وَحَرْبِيٍّ وَ‏)‏ لَا وَقْفُ الشَّخْصِ عَلَى ‏(‏نَفْسِهِ فِي الْأَصَحِّ‏)‏ الْمَنْصُوصِ فِي الثَّلَاثَةِ‏.‏ أَمَّا فِي الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ‏:‏ فَلِأَنَّهُمَا لَا دَوَامَ لَهُمَا مَعَ كُفْرِهِمَا، وَالْوَقْفُ صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، فَكَمَا لَا يُوقَفُ مَا لَا دَوَامَ لَهُ لَا يُوقَفُ عَلَى مَنْ لَا دَوَامَ لَهُ‏:‏ أَيْ مَعَ كُفْرِهِ فَلَا يَرِدُ الزَّانِي الْمُحْصَنُ فَإِنَّهُ يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ مَقْتُولٌ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ يَصِحُّ عَلَيْهِمَا كَالذِّمِّيِّ، وَنَصَّ الْمُصَنِّفُ فِي نُكَتِ التَّنْبِيهِ عَلَى الْخِلَافِ بِقَوْلِهِ‏:‏ وَقَفْت عَلَى زَيْدٍ الْحَرْبِيِّ أَوْ الْمُرْتَدِّ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ كَلَامُ الْكِتَابِ‏.‏ أَمَّا إذَا وَقَفَ عَلَى الْحَرْبِيِّينَ أَوْ الْمُرْتَدِّينَ فَلَا يَصِحُّ قَطْعًا‏.‏

وَأَمَّا الثَّالِثَةُ‏:‏ فَلِتَعَذُّرِ تَمْلِيكِ الْإِنْسَانِ مِلْكَهُ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ حَاصِلٌ، وَتَحْصِيلُ الْحَاصِلِ مُحَالٌ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ يَصِحُّ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الشَّيْءِ وَقْفًا غَيْرُ اسْتِحْقَاقِهِ مِلْكًا، وَمِثْلُ وَقْفِهِ عَلَى نَفْسِهِ مَا لَوْ وَقَفَ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَشَرَطَ أَنْ يَأْخُذَ مَعَهُمْ مِنْ رِيعِ الْوَقْفِ لِفَسَادِ الشَّرْطِ، وَقَوْلُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي وَقْفِهِ بِئْرَ رُومَةَ‏:‏ دَلْوِي فِيهَا كَدِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الشَّرْطِ، بَلْ إخْبَارٌ بِأَنَّ لِلْوَاقِفِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِوَقْفِهِ الْعَامِّ كَالصَّلَاةِ بِمَسْجِدٍ وَقَفَهُ، وَلَوْ وَقَفَ عَلَى نَفْسِهِ وَحَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ نَفَذَ حُكْمُهُ وَلَمْ يُنْقَضْ؛ لِأَنَّهَا مَسْأَلَةٌ اجْتِهَادِيَّةٌ‏.‏ وَيُسْتَثْنَى مِنْ عَدَمِ صِحَّةِ الْوَقْفِ عَلَى النَّفْسِ مَسَائِلُ مِنْهَا مَا لَوْ وَقَفَ عَلَى الْعُلَمَاءِ وَنَحْوِهِمْ كَالْفُقَرَاءِ وَاتَّصَفَ بِصِفَتِهِمْ أَوْ عَلَى الْفُقَرَاءِ ثُمَّ افْتَقَرَ، أَوْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَأَنْ وَقَفَ كِتَابًا لِلْقِرَاءَةِ وَنَحْوِهَا أَوْ قِدْرًا لِلطَّبْخِ فِيهِ أَوْ كِيزَانًا لِلشُّرْبِ بِهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَلَهُ الِانْتِفَاعُ مَعَهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ نَفْسَهُ‏.‏ وَمِنْهَا مَا لَوْ وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِ أَبِيهِ الْمَوْصُوفِينَ بِكَذَا وَذَكَرَ صِفَاتِ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي الْفَارِقِيُّ وَابْنُ يُونُسَ وَغَيْرُهُمَا، وَاعْتَمَدَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَإِنْ خَالَفَ فِيهِ الْمَاوَرْدِيُّ‏.‏ وَمِنْهَا مَا لَوْ شَرَطَ النَّظَرَ لِنَفْسِهِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ لَهَا مِنْ جِهَةِ الْعَمَلِ لَا مِنْ جِهَةِ الْوَقْفِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تُسْتَثْنَى هَذِهِ الصُّورَةُ، فَإِنْ شَرَطَ النَّظَرَ بِأَكْثَرَ مِنْهَا لَمْ يَصِحَّ الْوَقْفُ؛ لِأَنَّهُ وَقْفٌ عَلَى نَفْسِهِ‏.‏ وَمِنْهَا أَنْ يُؤَجِّرَ مِلْكَهُ مُدَّةً يَظُنُّ أَنْ لَا يَعِيشَ فَوْقَهَا مُنَجَّمَةً ثُمَّ يَقِفُهُ بَعْدُ عَلَى مَا يُرِيدُ فَإِنَّهُ يَصِحُّ الْوَقْفُ وَيَتَصَرَّفُ هُوَ فِي الْأُجْرَةِ كَمَا أَفْتَى بِهِ ابْنُ الصَّلَاحِ وَغَيْرُهُ، وَالْأَحْوَطُ أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ بَعْدَ الْوَقْفِ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ لِيَنْفَرِدَ بِالْيَدِ وَيَأْمَنَ خَطَرَ الدَّيْنِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ‏.‏ وَمِنْهَا أَنْ يَرْفَعَهُ إلَى حَاكِمٍ يَرَى صِحَّتَهُ كَمَا عَلَيْهِ الْعَمَلُ الْآنَ؛ فَإِنَّهُ لَا يُنْقَضُ حُكْمُهُ كَمَا مَرَّ، وَلَوْ وَقَفَ وَقْفًا لِيَحُجَّ عَنْهُ مِنْهُ جَازَ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَلَيْسَ هَذَا وَقْفًا عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ غَلَّتِهِ، فَإِنْ ارْتَدَّ لَمْ يَجُزْ صَرْفُهُ فِي الْحَجِّ وَصُرِفَ إلَى الْفُقَرَاءِ، فَإِنْ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ أُعِيدَ الْوَقْفُ إلَى الْحَجِّ عَنْهُ، وَلَوْ وَقَفَ عَلَى الْجِهَادِ عَنْهُ جَازَ أَيْضًا، فَإِنْ ارْتَدَّ فَالْوَقْفُ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ الْجِهَادَ يَصِحُّ مِنْ الْمُرْتَدِّ بِخِلَافِ الْحَجِّ‏.‏

المتن‏:‏

وَإِنْ وَقَفَ عَلَى جِهَةِ مَعْصِيَةٍ كَعِمَارَةِ الْكَنَائِسِ فَبَاطِلٌ

الشَّرْحُ‏:‏

ثُمَّ شَرَعَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏وَإِنْ وَقَفَ‏)‏ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ ‏(‏عَلَى جِهَةِ مَعْصِيَةٍ، كَعِمَارَةِ الْكَنَائِسِ‏)‏ وَنَحْوِهَا مِنْ مُتَعَبَّدَاتِ الْكُفَّارِ لِلتَّعَبُّدِ فِيهَا أَوْ حُصْرِهَا أَوْ قَنَادِيلِهَا أَوْ خُدَّامِهَا أَوْ كُتُبِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ أَوْ السِّلَاحِ لِقُطَّاعِ الطَّرِيقِ ‏(‏فَبَاطِلٌ‏)‏؛ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى مَعْصِيَةٍ وَالْوَقْفُ شُرِعَ لِلتَّقَرُّبِ فَهُمَا مُتَضَادَّانِ، وَسَوَاءٌ فِيهِ إنْشَاءُ الْكَنَائِسِ وَتَرْمِيمُهَا مَنَعْنَا التَّرْمِيمَ أَوْ لَمْ نَمْنَعْهُ، وَلَا يُعْتَبَرُ تَقْيِيدُ ابْنِ الرِّفْعَةِ عَدَمَ صِحَّةِ الْوَقْفِ عَلَى التَّرْمِيمِ بِمَنْعِهِ، فَقَدْ قَالَ السُّبْكِيُّ‏:‏ إنَّهُ وَهْمٌ فَاحِشٌ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى الْكَنَائِسِ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَتْ قَدِيمَةً قَبْلَ الْبِعْثَةِ، فَإِذَا لَمْ نُصَحِّحْ الْوَقْفَ عَلَيْهَا، وَلَا عَلَى قَنَادِيلِهَا وَحُصْرِهَا فَكَيْفَ نُصَحِّحُهُ عَلَى تَرْمِيمِهَا، وَإِذَا قُلْنَا بِبُطْلَانِ وَقْفِ الذِّمِّيِّ عَلَى الْكَنَائِسِ، وَلَمْ يَتَرَافَعُوا إلَيْنَا لَمْ نَتَعَرَّضْ لَهُمْ حَيْثُ لَا يُمْنَعُونَ مِنْ الْإِظْهَارِ، فَإِنْ تَرَافَعُوا إلَيْنَا أَبْطَلْنَاهُ وَإِنْ أَنْفَذَهُ حَاكِمُهُمْ لَا مَا وَقَفُوهُ قَبْلَ الْمَبْعَثِ عَلَى كَنَائِسِهِمْ الْقَدِيمَةِ فَلَا نُبْطِلُهُ بَلْ نُقِرُّهُ حَيْثُ نُقِرُّهَا‏.‏ أَمَّا عِمَارَةُ كَنَائِسِ غَيْرِ التَّعَبُّدِ كَكَنَائِسِ نُزُولِ الْمَارَّةِ فَيَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَيْهَا كَمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ وَابْنُ الرِّفْعَةِ وَغَيْرُهُمَا كَالْوَصِيَّةِ كَمَا سَيَأْتِي‏.‏

المتن‏:‏

أَوْ جِهَةِ قُرْبَةٍ كَالْفُقَرَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْمَسَاجِدِ، وَالْمَدَارِسِ صَحَّ

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏أَوْ‏)‏ وَقَفَ عَلَى ‏(‏جِهَةِ قُرْبَةٍ‏)‏ أَيْ يَظْهَرُ قَصْدُ الْقُرْبَةِ فِيهَا لِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بَعْدُ أَوْ جِهَةٍ لَا تَظْهَرُ فِيهَا الْقُرْبَةُ، وَإِلَّا فَالْوَقْفُ كُلُّهُ قُرْبَةٌ ‏(‏كَالْفُقَرَاءِ وَالْعُلَمَاءِ‏)‏ وَالْقُرَّاءِ وَالْمُجَاهِدِينَ ‏(‏وَالْمَسَاجِدِ‏)‏ وَالْكَعْبَةِ وَالرُّبُطِ ‏(‏وَالْمَدَارِسِ‏)‏ وَالثُّغُورِ وَتَكْفِينِ الْمَوْتَى ‏(‏صَحَّ‏)‏ لِعُمُومِ أَدِلَّةِ الْوَقْفِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

ظَاهِرُ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ فِي قَسْمِ الصَّدَقَاتِ‏:‏ أَنَّ فَقِيرَ الزَّكَاةِ وَالْوَقْفِ وَاحِدٌ فَمَا مُنِعَ مِنْ أَحَدِهِمَا مُنِعَ مِنْ الْآخَرِ، وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ الصَّرْفُ عَلَى الْمَسَاكِينِ أَيْضًا‏.‏

وَقَالَ فِي الرَّوْضَةِ مِنْ زَوَائِدِهِ آخِرَ الْبَابِ‏:‏ الْأَصَحُّ أَنْ لَا يُعْطَى مِنْ وَقْفِ الْفُقَرَاءِ فَقِيرَةٌ لَهَا زَوْجٌ يُمَوِّنُهَا وَلَا الْمَكْفِيُّ بِنَفَقَةِ أَبِيهِ، وَالْمُرَادُ بِالْعُلَمَاءِ‏:‏ أَصْحَابُ عُلُومِ الشَّرْعِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الرَّوْضَةِ، وَيَدْخُلُ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْفُقَهَاءِ مَنْ حَصَّلَ فِي عِلْمِ الْفِقْهِ شَيْئًا يَهْتَدِي بِهِ إلَى الْبَاقِي وَإِنْ قَلَّ لَا الْمُبْتَدِئُ مِنْ شَهْرٍ وَنَحْوِهِ، وَلِلْمُتَوَسِّطِ بَيْنَهُمَا دَرَجَاتٌ يَجْتَهِدُ الْمُفْتِي فِيهَا، وَالْوَرَعُ لِلْمُتَوَسِّطِ‏:‏ التَّرْكُ وَإِنْ أَفْتَى بِالدُّخُولِ كَمَا نَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ عَنْ الْغَزَالِيِّ، وَفِي الْوَقْفِ عَلَى الْمُتَفَقِّهَةِ مَنْ اشْتَغَلَ بِالْفِقْهِ مُبْتَدِئُهُ وَمُنْتَهِيهِ، وَفِي الْوَقْفِ عَلَى الصُّوفِيَّةِ النُّسَّاكُ الزَّاهِدُونَ الْمُشْتَغِلُونَ بِالْعِبَادَةِ فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ الْمُعْرِضُونَ عَنْ الدُّنْيَا، وَإِنْ مَلَكَ أَحَدُهُمْ دُونَ النِّصَابِ أَوْ لَا يَفِي دَخْلُهُ بِخَرْجِهِ، وَلَوْ خَاطَ وَنَسَجَ أَحْيَانًا فِي غَيْرِ حَانُوتٍ أَوْ دَرَّسَ أَوْ وَعَظَ أَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ أَوْ لَمْ يُلْبِسْهُ الْخِرْقَةَ شَيْخٌ فَلَا يَقْدَحُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي كَوْنِهِ صُوفِيًّا بِخِلَافِ الثَّرْوَةِ الظَّاهِرَةِ، وَيَكْفِي فِيهِ مَعَ مَا مَرَّ التَّزَيِّي بِزِيِّهِمْ أَوْ الْمُخَالَطَةُ، وَفِي الْوَقْفِ عَلَى سَبِيلِ الْبِرِّ أَوْ الْخَيْرِ أَوْ الثَّوَابِ أَقْرِبَاءُ الْوَاقِفِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدُوا فَأَهْلُ الزَّكَاةِ غَيْرُ الْعَامِلِينَ وَالْمُؤَلَّفَةِ، وَفِي الْوَقْفِ عَلَى سَبِيلِ اللَّهِ‏:‏ الْغُزَاةُ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الزَّكَاةِ، فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ سَبِيلِ اللَّهِ وَسَبِيلِ الْبِرِّ وَسَبِيلِ الثَّوَابِ كَانَ ثُلُثٌ لِلْغُزَاةِ وَثُلُثٌ لِأَقَارِبِ الْوَاقِفِ وَثُلُثٌ لِأَصْنَافِ الزَّكَاةِ غَيْرِ الْعَامِلِ وَالْمُؤَلَّفَةِ‏.‏

المتن‏:‏

أَوْ جِهَةٍ لَا تَظْهَرُ فِيهَا الْقُرْبَةُ كَالْأَغْنِيَاءِ صَحَّ فِي الْأَصَحِّ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏أَوْ‏)‏ وَقَفَ عَلَى ‏(‏جِهَةٍ لَا تَظْهَرُ فِيهَا الْقُرْبَةُ كَالْأَغْنِيَاءِ‏)‏ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْفَسَقَةِ ‏(‏صَحَّ فِي الْأَصَحِّ‏)‏ نَظَرًا إلَى أَنَّ الْوَقْفَ تَمْلِيكٌ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ لَا، نَظَرًا إلَى ظُهُورِ قَصْدِ الْقُرْبَةِ‏.‏ وَالثَّالِثُ‏:‏ يَصِحُّ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ وَيَبْطُلُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْفَسَقَةِ، وَتَمْثِيلُ الْمُصَنِّفِ بِالْأَغْنِيَاءِ قَدْ يُرْشِدُ إلَيْهِ، وَاسْتَحْسَنَهُ فِي أَصْلِ الرَّوْضَةِ بَعْدَ قَوْلِهِ الْأَشْبَهُ بِكَلَامِ الْأَكْثَرِينَ تَرْجِيحُ كَوْنِهِ تَمْلِيكًا فَيَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى هَؤُلَاءِ‏:‏ يَعْنِي عَلَى الْأَغْنِيَاءِ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْفُسَّاقِ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَلِذَلِكَ أَدْخَلْته فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْحَاوِي وَالصَّيْمَرِيُّ فِي شَرْحِ الْكِفَايَةِ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الشَّامِلِ وَالْبَحْرِ وَالتَّتِمَّةِ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَيْهِمْ جَائِزَةٌ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِضَابِطِ الْغِنَى الَّذِي يُسْتَحَقُّ بِهِ الْوَقْفُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ‏.‏ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ‏:‏ وَالْأَشْبَهُ أَنَّ الْمَرْجِعَ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ‏.‏

وَقَالَ غَيْرُهُ‏:‏ إنَّهُ مَنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ‏:‏ إمَّا لِمِلْكِهِ أَوْ لِقُوَّتِهِ وَكَسْبِهِ أَوْ كِفَايَتِهِ بِنَفَقَةِ غَيْرِهِ، وَهَذَا أَوْلَى، وَلَوْ وَقَفَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ وَادَّعَى شَخْصٌ أَنَّهُ غَنِيٌّ لَمْ يُقْبَلْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَقَفَ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَادَّعَى شَخْصٌ أَنَّهُ فَقِيرٌ وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَالٌ فَيُقْبَلُ بِلَا بَيِّنَةٍ نَظَرًا لِلْأَصْلِ فِيهِمَا، وَقَدْ عُلِمَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الشَّرْطَ انْتِفَاءُ الْمَعْصِيَةِ لَا وُجُودُ ظُهُورِ الْقُرْبَةِ‏.‏ فَإِنْ قِيلَ‏:‏ قَدْ مَرَّ أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى عَلَفِ الطُّيُورِ الْمُبَاحَةِ لَا يَصِحُّ وَلَا مَعْصِيَةَ فِيهِ بَلْ فِيهِ قُرْبَةٌ، فَقَدْ وَرَدَ فِي الْخَبَرِ ‏{‏أَنَّ فِي كُلِّ كَبِدٍ حَرَّاءَ أَجْرًا‏}‏‏.‏‏.‏ أُجِيبَ بِأَنَّ بُطْلَانَ الْوَقْفِ لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ، بَلْ مِنْ حَيْثِيَّةِ كَوْنِهَا لَيْسَتْ أَهْلًا لِلْمِلْكِ كَمَا سَبَقَ، وَلَا يَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى تَزْوِيقِ الْمَسْجِدِ أَوْ نَقْشِهِ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ هُنَا فِي آخِرِ الْبَابِ، وَلَا عَلَى عِمَارَةِ الْقُبُورِ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَى صَائِرُونَ إلَى الْبِلَى فَلَا يَلِيقُ بِهِمْ الْعِمَارَةُ‏.‏ قَالَ الْإِسْنَوِيُّ‏:‏ وَيَنْبَغِي اسْتِثْنَاءُ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ كَنَظِيرِهِ فِي الْوَصِيَّةِ‏.‏ قَالَ صَاحِبُ الذَّخَائِرِ‏:‏ وَيَنْبَغِي حَمْلُهُ عَلَى عِمَارَتِهَا بِبِنَاءِ الْقِبَابِ وَالْقَنَاطِرِ عَلَيْهَا عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، لَا بِنَائِهَا نَفْسِهَا لِلنَّهْيِ عَنْهُ ا هـ‏.‏

وَهَذَا ظَاهِرٌ، وَيَصِحُّ الْوَقْفُ عَلَى الْمُؤَنِ الَّتِي تَقَعُ فِي الْبَلَدِ مِنْ جِهَةِ السُّلْطَانِ وَوَقْفُ بَقَرَةٍ أَوْ نَحْوِهَا عَلَى رِبَاطٍ إذَا قَالَ‏:‏ لِيَشْرَبَ لَبَنَهَا مَنْ يَنْزِلُ أَوْ لِيُبَاعَ نَسْلُهَا وَيُصْرَفَ ثَمَنُهُ فِي مَصَالِحِهِ، فَإِنْ أَطْلَقَ قَالَ الْقَفَّالُ‏:‏ لَمْ يَصِحَّ وَإِنْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ يُرِيدُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِاللَّفْظِ‏.‏ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ‏:‏ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا قَالَهُ الْقَفَّالُ بَنَاهُ عَلَى طَرِيقَتِهِ مِنْ أَنَّهُ إذَا وَقَفَ شَيْئًا عَلَى مَسْجِدِ كَذَا لَا يَصِحُّ حَتَّى يُبَيِّنَ جِهَةَ مَصْرِفِهِ، وَطَرِيقَةُ الْجُمْهُورِ تُخَالِفُهُ ا هـ‏.‏

فَالْمُعْتَمَدُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا هُنَا الصِّحَّةُ أَيْضًا‏.‏

المتن‏:‏

وَلَا يَصِحُّ إلَّا بِلَفْظٍ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

ثُمَّ شَرَعَ فِي الرُّكْنِ الرَّابِعِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏وَلَا يَصِحُّ‏)‏ الْوَقْفُ ‏(‏إلَّا بِلَفْظٍ‏)‏ مِنْ نَاطِقٍ يُشْعِرُ بِالْمُرَادِ كَالْعِتْقِ بَلْ أَوْلَى، وَكَسَائِرِ التَّمْلِيكَاتِ، وَفِي مَعْنَاهُ إشَارَةُ الْأَخْرَسِ الْمُفْهِمَةِ وَكِتَابَتُهُ، بَلْ وَكِتَابَةُ النَّاطِقِ مَعَ نِيَّتِهِ كَالْبَيْعِ بَلْ أَوْلَى‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

يُسْتَثْنَى مِنْ اشْتِرَاطِ اللَّفْظِ مَا إذَا بَنَى مَسْجِدًا فِي مَوَاتٍ وَنَوَى جَعْلَهُ مَسْجِدًا؛ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مَسْجِدًا وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى لَفْظٍ كَمَا قَالَهُ فِي الْكِفَايَةِ تَبَعًا لِلْمَاوَرْدِيِّ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ مَعَ النِّيَّةِ مُغْنِيَانِ هُنَا عَنْ الْقَوْلِ، وَوَجَّهَهُ السُّبْكِيُّ بِأَنَّ الْمَوَاتَ لَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِ مَنْ أَحْيَاهُ مَسْجِدًا، وَإِنَّمَا اُحْتِيجَ لِلَفْظٍ لِإِخْرَاجِ مَا كَانَ مِلْكُهُ عَنْهُ وَصَارَ لِلْبِنَاءِ حُكْمُ الْمَسْجِدِ تَبَعًا‏.‏ قَالَ الْإِسْنَوِيُّ‏:‏ وَقِيَاسُ ذَلِكَ إجْرَاؤُهُ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ أَيْضًا مِنْ الْمَدَارِسِ وَالرُّبُطِ وَغَيْرِهَا، وَكَلَامُ الرَّافِعِيِّ فِي إحْيَاءِ الْمَوَاتِ يَدُلُّ لَهُ، وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا أَنَّهُ لَوْ قَالَ‏:‏ أَذِنْت فِي الِاعْتِكَافِ فِيهِ صَارَ مَسْجِدًا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي مَسْجِدٍ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ‏.‏

المتن‏:‏

وَصَرِيحُهُ وَقَفْت كَذَا أَوْ أَرْضِي مَوْقُوفَةٌ عَلَيْهِ، وَالتَّسْبِيلُ وَالتَّحْبِيسُ صَرِيحَانِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَوْ قَالَ تَصَدَّقْت بِكَذَا صَدَقَةً مُحَرَّمَةً أَوْ مَوْقُوفَةً أَوْ لَا تُبَاعُ وَلَا تُوهَبُ فَصَرِيحٌ فِي الْأَصَحِّ، وَقَوْلُهُ تَصَدَّقْت فَقَطْ لَيْسَ بِصَرِيحٍ وَإِنْ نَوَى إلَّا أَنْ يُضِيفَ إلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ وَيَنْوِيَ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ قَوْلَهُ حَرَّمْتُهُ أَوْ أَبَّدْتُهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ، وَأَنَّ قَوْلَهُ جَعَلْت الْبُقْعَةَ مَسْجِدًا تَصِيرُ بِهِ مَسْجِدًا‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

ثُمَّ لَفْظُ الْوَاقِفِ يَنْقَسِمُ إلَى صَرِيحٍ وَكِنَايَةٍ، وَقَدْ شَرَعَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، فَقَالَ ‏(‏وَصَرِيحُهُ‏)‏ كَأَنْ يَقُولَ‏:‏ ‏(‏وَقَفْت كَذَا‏)‏ عَلَى كَذَا، فَإِنْ لَمْ يَقُلْ عَلَى كَذَا لَمْ يَصِحَّ ‏(‏أَوْ‏)‏ يَقُولَ ‏(‏أَرْضِي مَوْقُوفَةٌ عَلَيْهِ‏)‏ لِاشْتِهَارِهِ لُغَةً وَعُرْفًا، وَإِنَّمَا قَالَ‏:‏ مَوْقُوفَةٌ لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْمُشْتَقِّ مِنْهُ ‏(‏وَالتَّسْبِيلُ وَالتَّحْبِيسُ صَرِيحَانِ‏)‏ أَيْضًا، أَيْ الْمُشْتَقُّ مِنْهُمَا ‏(‏عَلَى الصَّحِيحِ‏)‏ لِتَكَرُّرِهِمَا شَرْعًا وَاشْتِهَارِهِمَا عُرْفًا قَالَهُ الْمُتَوَلِّي، وَمَا نُقِلَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَقْفٌ إلَّا بِهِمَا‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ هُمَا كِنَايَتَانِ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَشْتَهِرَا اشْتِهَارَ الْوَقْفِ ‏(‏وَلَوْ قَالَ تَصَدَّقْت بِكَذَا صَدَقَةً مُحَرَّمَةً أَوْ‏)‏ صَدَقَةً ‏(‏مَوْقُوفَةً أَوْ‏)‏ صَدَقَةً ‏(‏لَا تُبَاعُ وَلَا تُوهَبُ فَصَرِيحٌ فِي الْأَصَحِّ‏)‏ الْمَنْصُوصِ فِي الْأُمِّ؛ لِأَنَّ لَفْظَ التَّصَدُّقِ مَعَ هَذِهِ الْقَرَائِنِ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ الْوَقْفِ، وَهَذَا صَرِيحٌ بِغَيْرِهِ، وَمَا قَبْلَهُ صَرِيحٌ بِنَفْسِهِ‏.‏ وَالثَّانِي هُوَ كِنَايَةٌ لِاحْتِمَالِ التَّمْلِيكِ الْمَحْضِ

تَنْبِيهٌ‏:‏

قَوْلُهُ‏:‏ كَغَيْرِهِ وَلَا تُوهَبُ بِالْوَاوِ مَحْمُولٌ عَلَى التَّأْكِيدِ وَإِلَّا فَأَحَدُ الْوَصْفَيْنِ كَافٍ كَمَا رَجَّحَهُ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ، وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ الرِّفْعَةِ‏.‏ وَاسْتَشْكَلَ السُّبْكِيُّ حِكَايَةَ الْخِلَافِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ مَعَ جَزْمِهِ أَوَّلًا بِصَرَاحَةٍ أَرْضِي مَوْقُوفَةٌ فَكَيْفَ إذَا اجْتَمَعَ مَعَ غَيْرِهِ يَجِيءُ الْخِلَافُ فَضْلًا عَنْ قُوَّتِهِ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَلَوْلَا وُثُوقِي بِخَطِّ الْمُصَنِّفِ وَالْمِنْهَاجُ عِنْدِي بِخَطِّهِ لَكُنْت أَتَوَهَّمُ أَنَّ مَكَانَ مَوْقُوفَةٌ مُؤَبَّدَةٌ كَمَا ذَكَرَهُ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ تَبَعًا لِلشَّافِعِيِّ قَالَ ابْنُ النَّقِيبِ‏:‏ لَكِنَّ الْخِلَافَ مَحْكِيٌّ مِنْ خَارِجٍ؛ لِأَنَّ فِي صَرَاحَةِ لَفْظِ الْوَقْفِ وَجْهًا فَطُرِدَ مَعَ انْضِمَامِهِ لِغَيْرِهِ لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ‏:‏ أَيْ فَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يُعَبِّرَ بِالْأَصَحِّ، وَقَالَ غَيْرُهُ‏:‏ إنَّ مَوْقُوفَةٌ مِنْ طُغْيَانِ الْقَلَمِ، وَيَكُونُ الْقَصْدُ كِتَابَةَ لَفْظَةِ مُؤَبَّدَةٌ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَالْجُمْهُورُ، فَسَبَقَ الْقَلَمُ إلَى كِتَابَةِ مَوْقُوفَةٌ‏.‏ فَإِنْ قِيلَ‏:‏ لَفْظُ التَّحْرِيمِ كِنَايَةٌ عَلَى الصَّحِيحِ، وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ الْكِنَايَةَ إذَا انْضَمَّ إلَيْهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُرَادِ، كَقَوْلِهِ‏:‏ أَنْتِ بَائِنٌ بَيْنُونَةً مُحَرَّمَةً لَا تَحِلِّينَ لِي أَبَدًا؛ لَا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا كِنَايَةً، فَهَلَّا كَانَ هَذَا كَالطَّلَاقِ،‏.‏ أُجِيبَ بِأَنَّ صَرَائِحَ الطَّلَاقِ مَحْصُورَةٌ بِخِلَافِ الْوَقْفِ، وَبِأَنَّ قَوْلَهُ بَيْنُونَةً مُحَرَّمَةً لَا تَحِلِّينَ لِي أَبَدًا غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالطَّلَاقِ بَلْ يَدْخُلُ فِيهِ الْفُسُوخُ، وَالزَّائِدُ فِي أَلْفَاظِ الْوَقْفِ يَخْتَصُّ بِالْوَقْفِ، وَبِأَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ تَصَدَّقْت يَقْتَضِي زَوَالَ الْمِلْكِ، وَلَهُ مَحْمَلَانِ‏:‏ مَحْمَلُ الصَّدَقَةِ الَّتِي تَحْتَمِلُ الْمِلْكَ، وَمَحْمَلُ الصَّدَقَةِ الَّتِي هِيَ الْوَقْفُ، فَالزَّائِدُ يُعَيِّنُ الْمَحْمَلَ الثَّانِيَ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ ‏(‏وَقَوْلُهُ‏:‏ تَصَدَّقْت فَقَطْ لَيْسَ بِصَرِيحٍ‏)‏ فِي الْوَقْفِ وَلَا يَحْصُلُ بِهِ الْوَقْفُ ‏(‏وَإِنْ نَوَى‏)‏ الْوَقْفَ لِتَرَدُّدِ اللَّفْظِ بَيْنَ صَدَقَةِ الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ، وَالصَّدَقَةِ الْمَوْقُوفَةِ ‏(‏إلَّا أَنْ يُضِيفَ إلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ‏)‏ كَالْفُقَرَاءِ ‏(‏وَيَنْوِيَ‏)‏ الْوَقْفَ فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ، وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ يَكُونُ صَرِيحًا حِينَئِذٍ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ فِي كُتُبِهِ وَالْمُصَنِّفِ فِي الرَّوْضَةِ عَدَمُ الصَّرَاحَةِ، وَإِنَّمَا إضَافَتُهُ إلَى الْجِهَةِ الْعَامَّةِ صَيَّرَتْهُ كِنَايَةً حَتَّى تَعْمَلَ فِيهِ النِّيَّةُ، وَهُوَ - كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ - الصَّوَابُ؛ لِأَنَّ الصَّرِيحَ لَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ‏.‏ أَمَّا إذَا أُضِيفَ إلَى مَعْنًى وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ فَلَا يَكُونُ وَقْفًا عَلَى الصَّحِيحِ بَلْ يَنْفُذُ فِيمَا هُوَ صَرِيحٌ، وَهُوَ مَحْضُ التَّمْلِيكِ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

هَذَا كُلُّهُ كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيُّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الظَّاهِرِ‏.‏ أَمَّا فِي الْبَاطِنِ فَيَصِيرُ وَقْفًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا صَرَّحَ بِهِ جَمْعٌ مِنْهُمْ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَسَلِيمٌ وَالْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُمْ ‏(‏وَالْأَصَحُّ أَنَّ قَوْلَهُ حَرَّمْتُهُ‏)‏ لِلْفُقَرَاءِ مَثَلًا ‏(‏أَوْ أَبَّدْتُهُ‏)‏ عَلَيْهِمْ ‏(‏لَيْسَ بِصَرِيحٍ‏)‏ بَلْ هُوَ كِنَايَةٌ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يُسْتَعْمَلَانِ مُسْتَقِلَّيْنِ، وَإِنَّمَا يُؤَكَّدُ بِهِمَا الْأَلْفَاظُ السَّابِقَةُ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ هُوَ صَرِيحٌ لِإِفَادَةِ الْغَرَضِ كَالتَّسْبِيلِ، وَيَجْرِي الْخِلَافُ أَيْضًا فِيمَا لَوْ قَالَ‏:‏ حَرَّمْتُهُ وَأَبَّدْتُهُ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

أَفْهَمَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْوَقْفِ أَنْ يَقُولَ‏:‏ أَخْرَجْتُهُ عَنْ مِلْكِي وَهُوَ كَذَلِكَ وَإِنْ حَكَى الْإِمَامُ فِيهِ احْتِمَالَيْنِ ‏(‏وَ‏)‏ الْأَصَحُّ ‏(‏أَنَّ قَوْلَهُ جَعَلْت‏)‏ هَذِهِ ‏(‏الْبُقْعَةَ مَسْجِدًا‏)‏ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ لِلَّهِ ‏(‏تَصِيرُ بِهِ‏)‏ أَيْ بِمُجَرَّدِ هَذَا اللَّفْظِ ‏(‏مَسْجِدًا‏)‏؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ لَا يَكُونُ إلَّا وَقْفًا فَأَغْنَى لَفْظُهُ عَنْ لَفْظِ الْوَقْفِ وَنَحْوِهِ، وَالثَّانِي‏:‏ وَعَلَيْهِ جَمْعٌ كَثِيرٌ أَنَّ الْقَوْلَ الْمَذْكُورَ لَا يُصَيِّرُهُ مَسْجِدًا لِعَدَمِ ذِكْرِ شَيْءِ مِنْ أَلْفَاظِ الْوَقْفِ، وَإِنْ قَالَ جَعَلْت الْبُقْعَةَ مَسْجِدًا لِلَّهِ تَعَالَى صَارَتْ مَسْجِدًا جَزْمًا وَكَذَا إنْ قَصَدَ بِقَوْلِهِ‏:‏ جَعَلْت الْبُقْعَةَ مَسْجِدًا الْوَقْفَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَلَوْ قَالَ‏:‏ وَقَفْتهَا لِلصَّلَاةِ كَانَ صَرِيحًا فِي الْوَقْفِ كِنَايَةً فِي وَقْفِهِ مَسْجِدًا فَيَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ، وَلَوْ بَنَى بَيْتًا وَأَذِنَ فِي الصَّلَاةِ فِيهِ لَمْ يَصِرْ بِذَلِكَ مَسْجِدًا وَإِنْ صَلَّى فِيهِ وَنَوَى جَعْلَهُ مَسْجِدًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ النِّيَّةَ تَكْفِي فِيمَا إذَا بَنَاهُ فِي مَوَاتٍ‏.‏

المتن‏:‏

وَأَنَّ الْوَقْفَ عَلَى مُعَيَّنٍ يُشْتَرَطُ فِيهِ قَبُولُهُ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَ‏)‏ الْأَصَحُّ ‏(‏أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى مُعَيَّنٍ يُشْتَرَطُ فِيهِ قَبُولُهُ‏)‏ مُتَّصِلًا بِالْإِيجَابِ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقَبُولِ وَإِلَّا فَقَبُولُ وَلِيِّهِ كَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَالَهُ الْجُورِيُّ وَالْفُورَانِيُّ وَصَحَّحَهُ الْإِمَامُ وَأَتْبَاعُهُ، وَعَزَاهُ الرَّافِعِيُّ فِي الشَّرْحَيْنِ، لِلْإِمَامِ وَآخَرِينَ وَصَحَّحَهُ فِي الْمُحَرَّرِ وَنَقَلَهُ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ عَنْهُ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ وَجَرَى عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ لَا يُشْتَرَطُ وَاسْتِحْقَاقُهُ الْمَنْفَعَةَ كَاسْتِحْقَاقِ الْعَتِيقِ مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ بِالْإِعْتَاقِ‏.‏ قَالَ السُّبْكِيُّ‏:‏ وَهَذَا ظَاهِرُ نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَسَلِيمٌ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالْمُصَنِّفُ فِي الرَّوْضَةِ فِي السَّرِقَةِ، وَنَقَلَهُ فِي شَرْحِ الْوَسِيطِ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ وَجَرَى عَلَيْهِ شَيْخُنَا فِي مَنْهَجِهِ‏.‏ قَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ‏:‏ وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ الرَّافِعِيِّ لَوْ قَالَ‏:‏ وَقَفْت عَلَيْهِ زَوْجَتَهُ انْفَسَخَ النِّكَاحُ‏.‏ قَالَ فِي الْوَسِيطِ‏:‏ وَاَلَّذِي رَأَيْته فِي نُسَخِ الرَّافِعِيِّ‏:‏ فَلَوْ وَقَفَ بِحَذْفِ لَفْظَةِ قَالَ وَهُوَ الصَّوَابُ‏:‏ أَيْ فَيَكُونُ الْوَقْفُ قَدْ تَمَّ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ يَنْفَسِخُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِ الْوَاقِفِ وَقَفْت عَلَيْهِ زَوْجَتَهُ فَيَكُونُ مُفَرَّعًا عَلَى عَدَمِ الْقَبُولِ‏.‏ وَبِالْجُمْلَةِ فَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَإِلْحَاقُ الْوَقْفِ بِالْعِتْقِ مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يُرَدُّ بِالرَّدِّ وَلَا يُبْطَلُ بِالشُّرُوطِ الْمُفْسِدَةِ بِخِلَافِ الْوَقْفِ فِي ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ يَنْتَقِلُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى هَذَا يُسْتَثْنَى مَا إذَا وَقَفَ عَلَى ابْنِهِ الْحَائِزِ مَا يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِهِ، فَإِنَّ قَضِيَّةَ كَلَامِهِمْ فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ لُزُومُ الْوَقْفِ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ وَبِهِ صَرَّحَ الْإِمَامُ، وَلَا يُشْتَرَطُ عَلَى الْقَوْلِ بِالْقَبُولِ الْقَبْضُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَشَذَّ الْجُورِيُّ فَحَكَى قَوْلَيْنِ فِي اشْتِرَاطِهِ فِي الْمُعَيَّنِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

قَضِيَّةُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ تَرْجِيحُ اشْتِرَاطِ الْقَبُولِ فِي الْبَطْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَلَقَّوْنَ الْوَقْفَ مِنْ الْوَاقِفِ، قَالَ السُّبْكِيُّ‏:‏ وَاَلَّذِي يَتَحَصَّلُ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ قَبُولُهُمْ وَإِنْ شَرَطْنَا قَبُولَ الْبَطْنِ الْأَوَّلِ، وَأَنَّهُ يَرْتَدُّ بِرَدِّهِمْ كَمَا يَرْتَدُّ بِرَدِّ الْأَوَّلِ عَلَى الصَّحِيحِ فِيهِمَا وَجَرَى عَلَى هَذَا ابْنُ الْمُقْرِي، وَعَلَى هَذَا فَإِنْ رَدُّوا فَمُنْقَطِعُ الْوَسَطِ أَوْ رُدَّ الْأَوَّلُ بَطَلَ الْوَقْفُ كَالْوَصِيَّةِ وَالْوَكَالَةِ‏.‏ أَمَّا الْوَقْفُ عَلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ كَالْفُقَرَاءِ أَوْ عَلَى مَسْجِدٍ أَوْ نَحْوِهِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبُولُ جَزْمًا لِتَعَذُّرِهِ‏.‏ فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَمْ يُجْعَل الْحَاكِمُ نَائِبًا فِي الْقَبُولِ كَمَا جُعِلَ نَائِبًا عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ‏؟‏‏.‏ أُجِيبَ بِأَنَّ الْقِصَاصَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُبَاشِرٍ فَلِذَلِكَ جُعِلَ نَائِبًا فِيهِ بِخِلَافِ هَذَا، وَلَمْ يَشْتَرِطُوا قَبُولَ نَاظِرِ الْمَسْجِدِ بِخِلَافِ مَا لَوْ وُهِبَ لِلْمَسْجِدِ شَيْءٌ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ قَبُولِ نَاظِرِهِ وَقَبْضِهِ كَمَا لَوْ وُهِبَ شَيْءٌ لِصَبِيٍّ، وَقَوْلُهُ جَعَلْته لِلْمَسْجِدِ كِنَايَةُ تَمْلِيكٍ لَا وَقْفٍ، فَيُشْتَرَطُ قَبُولُ النَّاظِرِ وَقَبْضُهُ كَمَا مَرَّ‏.‏

المتن‏:‏

وَلَوْ رَدَّ بَطَلَ حَقُّهُ شَرَطْنَا الْقَبُولَ أَمْ لَا‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَلَوْ رَدَّ‏)‏ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنُ الْعَيْنَ الْمَوْقُوفَةَ ‏(‏بَطَلَ حَقُّهُ‏)‏ سَوَاءٌ ‏(‏شَرَطْنَا الْقَبُولَ‏)‏ مِنْ الْمُعَيَّنِ ‏(‏أَمْ لَا‏)‏ كَالْوَصِيَّةِ وَالْوَكَالَةِ وَلَوْ رَجَعَ بَعْدَ الرَّدِّ لَمْ يَعُدْ لَهُ، وَقَوْلُ الرُّويَانِيِّ‏:‏ يَعُودُ لَهُ إنْ رَجَعَ قَبْلَ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِهِ لِغَيْرِهِ، مَرْدُودٌ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْأَذْرَعِيُّ‏.‏ نَعَمْ لَوْ وَقَفَ عَلَى وَارِثِهِ الْحَائِزِ لِتَرِكَتِهِ شَيْئًا يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ لَزِمَ وَلَمْ يَبْطُلْ حَقُّهُ بِرَدِّهِ كَمَا نَقَلَهُ الشَّيْخَانِ فِي بَابِ الْوَصَايَا عَنْ الْإِمَامِ‏.‏

المتن‏:‏

وَلَوْ قَالَ وَقَفْت هَذَا سَنَةً فَبَاطِلٌ، وَلَوْ قَالَ وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي أَوْ عَلَى زَيْدٍ ثُمَّ نَسْلِهِ وَلَمْ يَزِدْ فَالْأَظْهَرُ صِحَّةُ الْوَقْفِ فَإِذَا انْقَرَضَ الْمَذْكُورُ فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَبْقَى وَقْفًا، وَأَنَّ مَصْرِفَهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَى الْوَاقِفِ يَوْمَ انْقِرَاضِ الْمَذْكُورِ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

يُشْتَرَطُ فِي الْوَقْفِ أَرْبَعَةُ شُرُوطٍ‏:‏ الْأَوَّلُ التَّأْبِيدُ كَالْوَقْفِ عَلَى مَنْ لَمْ يَنْقَرِضْ قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ كَالْفُقَرَاءِ أَوْ عَلَى مَنْ يَنْقَرِضُ‏.‏ ثُمَّ عَلَى مَنْ لَا يَنْقَرِضُ كَزَيْدٍ ثُمَّ الْفُقَرَاءُ فَلَا يَصِحُّ تَأْقِيتُ الْوَقْفِ كَمَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏وَلَوْ قَالَ‏:‏ وَقَفْت هَذَا‏)‏ عَلَى كَذَا ‏(‏سَنَةً‏)‏ مَثَلًا ‏(‏فَبَاطِلٌ‏)‏ هَذَا الْوَقْفُ لِفَسَادِ الصِّيغَةِ‏.‏ فَإِنْ أَعْقَبَهُ بِمَصْرِفٍ كَوَقَفْتُهُ عَلَى زَيْدٍ سَنَةً ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ صَحَّ، وَرُوعِيَ فِيهِ شَرْطُ الْوَاقِفِ كَمَا نَقَلَهُ الْبُلْقِينِيُّ عَنْ الْخُوَارِزْمِيِّ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

مَا ذَكَرَ مَحَلُّهُ فِيمَا لَا يُضَاهِي التَّحْرِيرَ‏.‏ أَمَّا مَا يُضَاهِيهِ كَالْمَسْجِدِ وَالْمَقْبَرَةِ وَالرِّبَاطِ كَقَوْلِهِ‏:‏ جَعَلْته مَسْجِدًا سَنَةً فَإِنَّهُ يَصِحُّ مُؤَبَّدًا كَمَا لَوْ ذَكَرَ فِيهِ شَرْطًا فَاسِدًا، قَالَهُ الْإِمَامُ وَتَبِعَهُ غَيْرُهُ‏:‏ أَيْ وَهُوَ لَا يَفْسُدُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ ‏(‏وَلَوْ قَالَ‏:‏ وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي أَوْ عَلَى زَيْدٍ ثُمَّ نَسْلِهِ‏)‏ وَنَحْوِهِ مِمَّا لَا يَدُومُ ‏(‏وَلَمْ يَزِدْ‏)‏ عَلَى ذَلِكَ مَنْ صُرِفَ إلَيْهِ بَعْدَهُمْ ‏(‏فَالْأَظْهَرُ صِحَّةُ الْوَقْفِ‏)‏؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْوَقْفِ الْقُرْبَةُ وَالدَّوَامُ وَإِذَا بَيَّنَ مَصْرِفَهُ ابْتِدَاءً سَهَّلَ إدَامَتَهُ عَلَى سَبِيلِ الْخَيْرِ، وَيُسَمَّى مُنْقَطِعَ الْآخِرِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ بُطْلَانُهُ لِانْقِطَاعِهِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ ‏(‏فَإِذَا انْقَرَضَ الْمَذْكُورُ فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَبْقَى وَقْفًا‏)‏؛ لِأَنَّ وَضْعَ الْوَقْفِ عَلَى الدَّوَامِ كَالْعِتْقِ وَالثَّانِي يَرْتَفِعُ الْوَقْفُ وَيَعُودُ مِلْكًا لِلْوَاقِفِ أَوْ وُرَّاثِهِ إنْ مَاتَ ‏(‏وَ‏)‏ الْأَظْهَرُ عَلَى الْأَوَّلِ ‏(‏أَنَّ مَصْرِفَهُ‏)‏ عِنْدَ انْقِرَاضِ مَنْ ذَكَرَ ‏(‏أَقْرَبُ النَّاسِ إلَى الْوَاقِفِ يَوْمَ انْقِرَاضِ الْمَذْكُورِ‏)‏؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْأَقَارِبِ مِنْ أَفْضَلِ الْقُرُبَاتِ، وَفِي الْحَدِيثِ ‏{‏صَدَقَتُكَ عَلَى غَيْرِ رَحِمِكَ صَدَقَةٌ، وَعَلَى رَحِمِكَ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ‏}‏ وَيَخْتَصُّ الْمَصْرِفُ وُجُوبًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْخُوَارِزْمِيُّ وَغَيْرُهُ بِفُقَرَاءِ قَرَابَةِ الرَّحِمِ لَا الْإِرْثِ فِي الْأَصَحِّ فَيُقَدِّمُ ابْنَ بِنْتٍ عَلَى ابْنِ عَمٍّ‏.‏ فَإِنْ قِيلَ‏:‏ الزَّكَاةُ وَسَائِرُ الْمَصَارِفِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ شَرْعًا لَا يَتَعَيَّنُ صَرْفُهَا وَلَا الصَّرْفُ مِنْهَا إلَى الْأَقَارِبِ فَهَلَّا كَانَ الْوَقْفُ كَذَلِكَ‏؟‏‏.‏ أُجِيبَ بِأَنَّ الْأَقَارِبَ مِمَّا حَثَّ الشَّارِعُ عَلَيْهِمْ فِي تَحْبِيسِ الْوَقْفِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي طَلْحَةَ‏:‏ ‏{‏أَرَى أَنْ تَجْعَلهَا فِي الْأَقْرَبِينَ‏}‏ فَجَعَلَهَا فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ، وَأَيْضًا الزَّكَاةُ وَنَحْوُهَا مِنْ الْمَصَارِفِ الْوَاجِبَةِ لَهَا مَصْرِفٌ مُتَعَيَّنٌ فَلَمْ تَتَعَيَّنْ الْأَقَارِبُ، وَهُنَا لَيْسَ مَعَنَا مَصْرِفٌ مُتَعَيَّنٌ، وَالصَّرْفُ إلَى الْأَقَارِبِ أَفْضَلُ فَعَيَّنَّاهُ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ يُصْرَفُ إلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ يَئُولُ إلَيْهِمْ فِي الِانْتِهَاءِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَقَارِبُ صَرَفَ الْإِمَامُ الرِّيعَ إلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا حَكَاهُ الرُّويَانِيُّ عَنْ النَّصِّ، وَقِيلَ‏:‏ يُصْرَفُ إلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

هَذَا إذَا كَانَ الْوَاقِفُ مَالِكًا مُسْتَقِلًّا، فَإِنْ وَقَفَ الْإِمَامُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى بَنِي فُلَانٍ، ثُمَّ انْقَرَضُوا‏.‏ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ‏:‏ لَمْ يُصْرَفْ إلَى أَقَارِبِ الْإِمَامِ بَلْ فِي الْمَصَالِحِ قَالَ‏:‏ وَهَذَا أَصَحُّ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرُوهُ، وَقَدْ وَقَعَ فِي الْفَتَاوَى وَلَوْ لَمْ يُعْرَفْ أَرْبَابُ الْوَقْفِ فَمَصْرِفُهُ كَمَا فِي مُنْقَطِعِ الْآخِرِ‏.‏

المتن‏:‏

وَلَوْ كَانَ الْوَقْفُ مُنْقَطِعَ الْأَوَّلِ كَوَقَفْتُهُ عَلَى مَنْ سَيُولَدُ لِي فَالْمَذْهَبُ بُطْلَانُهُ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَلَوْ كَانَ الْوَقْفُ مُنْقَطِعَ الْأَوَّلِ كَوَقَفْتُهُ عَلَى‏)‏ وَلَدِي وَلَا وَلَدَ لَهُ أَوْ عَلَى مَسْجِدٍ سَيُبْنَى أَوْ عَلَى ‏(‏مَنْ سَيُولَدُ لِي‏)‏ ثُمَّ الْفُقَرَاءِ ‏(‏فَالْمَذْهَبُ بُطْلَانُهُ‏)‏؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ بَاطِلٌ لِعَدَمِ إمْكَانِ الصَّرْفِ إلَيْهِ فِي الْحَالِ؛ فَكَذَا مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ‏.‏ وَالطَّرِيقُ الثَّانِي فِيهِ قَوْلَانِ‏:‏ أَحَدُهُمَا الصِّحَّةُ وَصَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ فِي تَصْحِيحِ التَّنْبِيهِ، وَلَوْ وَقَفَ عَلَى بَعْضِ وَرَثَتِهِ فِي الْمَرَضِ وَلَمْ يُجِزْ الْبَاقُونَ أَوْ عَلَى مُبْهَمٍ ثُمَّ الْفُقَرَاءِ فَمُنْقَطِعُ الْأَوَّلِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

تَمْثِيلُ الْمُصَنِّفِ لِمُنْقَطِعِ الْأَوَّلِ نَاقِصٌ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَزِيدَ مَا قَدَّرْتُهُ وَإِلَّا فَهُوَ مُنْقَطِعُ الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ، وَلَا خِلَافَ فِي بُطْلَانِهِ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ‏.‏

المتن‏:‏

أَوْ مُنْقَطِعَ الْوَسَطِ كَوَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي ثُمَّ رَجُلٍ ثُمَّ الْفُقَرَاءِ، فَالْمَذْهَبُ صِحَّتُهُ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏أَوْ‏)‏ كَانَ الْوَقْفُ ‏(‏مُنْقَطِعَ الْوَسَطِ‏)‏ بِفَتْحِ السِّينِ ‏(‏كَوَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي ثُمَّ‏)‏ عَلَى ‏(‏رَجُلٍ‏)‏ مُبْهَمٍ ‏(‏ثُمَّ‏)‏ ‏(‏الْفُقَرَاءِ، فَالْمَذْهَبُ صِحَّتُهُ‏)‏ لِوُجُودِ الْمَصْرِفِ فِي الْحَالِ وَالْمَآلِ، وَالْخِلَافُ هُنَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي مُنْقَطِعِ الْآخِرِ وَأَوْلَى بِالصِّحَّةِ لِمَا ذُكِرَ، وَعَلَى الْأَوَّلِ بَعْدَ أَوْلَادِهِ يُصْرَفُ لِلْفُقَرَاءِ لَا لِأَقْرَبِ النَّاسِ إلَى الْوَاقِفِ لِعَدَمِ مَعْرِفَةِ أَمَدِ الِانْقِطَاعِ، فَإِنْ قَالَ‏:‏ وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي ثُمَّ عَلَى الْعَبْدِ نَفْسِهِ ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ كَانَ مُنْقَطِعَ الْوَسَطِ أَيْضًا، وَلَكِنْ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يُصْرَفُ بَعْدَ أَوْلَادِهِ لِأَقْرِبَاءِ الْوَاقِفِ مِثْلَ مَا مَرَّ فِي مُنْقَطِعِ الْآخِرِ، وَالشَّارِحُ جَعَلَ صُورَةَ الْمَتْنِ كَهَذِهِ الصُّورَةِ وَتَبِعَهُ كَثِيرٌ مِنْ الشُّرَّاحِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَلَمْ أَرَ مَنْ نَبَّهَ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ غَيْرَ ابْنِ الْمُقْرِي فِي رَوْضِهِ، وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ مَنْهَجِهِ‏.‏

المتن‏:‏

وَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى وَقَفْت فَالْأَظْهَرُ بُطْلَانُهُ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

ثُمَّ شَرَعَ فِي الشَّرْطِ الثَّانِي وَهُوَ بَيَانُ الْمَصْرِفِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏وَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى‏)‏ قَوْلِهِ ‏(‏وَقَفْت‏)‏ كَذَا وَلَمْ يَذْكُرْ مَصْرِفَهُ ‏(‏فَالْأَظْهَرُ بُطْلَانُهُ‏)‏ لِعَدَمِ ذِكْرِ مَصْرِفِهِ‏.‏ فَإِنْ قِيلَ‏:‏ لَوْ قَالَ‏:‏ أَوْصَيْت بِثُلُثِ مَالِي وَلَمْ يَذْكُرْ مَصْرِفًا أَنَّهُ يَصِحُّ وَيُصْرَفُ لِلْمَسَاكِينِ، فَهَلَّا كَانَ هُنَا كَذَلِكَ كَمَا يَقُولُ بِهِ مُقَابِلَ الْأَظْهَرِ، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَمَالَ إلَيْهِ السُّبْكِيُّ فِيمَا إذَا قَالَ‏:‏ وَقَفْت هَذَا لِلَّهِ‏.‏ أُجِيبَ بِأَنَّ غَالِبَ الْوَصَايَا لِلْمَسَاكِينِ فَحَمَلَ الْإِطْلَاقَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْوَقْفِ، وَبِأَنَّ الْوَصِيَّةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُسَاهَلَةِ فَتَصِحُّ بِالْمَجْهُولِ وَالنَّجَسِ بِخِلَافِ الْوَقْفِ‏.‏ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ‏:‏ وَيُشْبِهُ أَنَّهُ لَوْ نَوَى الْمَصْرِفَ وَاعْتَرَفَ بِهِ صَحَّ ظَاهِرًا وَنَازَعَهُ الْغَزِّيُّ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ‏:‏ طَلَّقْت وَنَوَى امْرَأَتَهُ لَا تَطْلُقُ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ إنَّمَا تَصِحُّ فِيمَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ، وَلَيْسَ هُنَا لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَى الْمَصْرِفِ أَصْلًا ا هـ‏.‏

وَهَذَا أَظْهَرُ، وَلَوْ بَيَّنَ الْمَصْرِفَ إجْمَالًا كَقَوْلِهِ‏:‏ وَقَفْت هَذَا عَلَى مَسْجِدِ كَذَا؛ كَفَى وَصُرِفَ إلَى مَصَالِحِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَإِنْ قَالَ الْقَفَّالُ‏:‏ لَا يَصِحُّ مَا لَمْ يُبَيِّنْ الْجِهَةَ فَيَقُولُ عَلَى عِمَارَتِهِ وَنَحْوِهِ‏.‏

المتن‏:‏

وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ كَقَوْلِهِ إذَا جَاءَ زَيْدٌ فَقَدْ وَقَفْت‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

ثُمَّ شَرَعَ فِي الشَّرْطِ الثَّالِثِ، وَهُوَ التَّنْجِيزُ فَقَالَ ‏(‏وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ كَقَوْلِهِ إذَا جَاءَ زَيْدٌ فَقَدْ وَقَفْت‏)‏ كَذَا عَلَى كَذَا؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَقْتَضِي نَقْلَ الْمِلْكِ فِي الْحَالِ لَمْ يُبْنَ عَلَى التَّغْلِيبِ وَالسِّرَايَةِ، فَلَمْ يَصِحَّ تَعْلِيقُهُ عَلَى شَرْطٍ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

مَحَلُّ الْخِلَافِ فِيمَا لَا يُضَاهِي التَّحْرِيرَ‏.‏ أَمَّا مَا يُضَاهِيهِ كَجَعَلْتُهُ مَسْجِدًا إذَا جَاءَ رَمَضَانُ، فَالظَّاهِرُ صِحَّتُهُ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ، وَمَحَلُّهُ أَيْضًا مَا لَمْ يُعَلِّقْهُ بِالْمَوْتِ، فَإِنْ عَلَّقَهُ بِهِ كَقَوْلِهِ‏:‏ وَقَفْت دَارِي بَعْدَ مَوْتِي عَلَى الْفُقَرَاءِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ‏.‏ قَالَ الشَّيْخَانِ‏:‏ وَكَأَنَّهُ وَصِيَّةٌ لِقَوْلِ الْقَفَّالِ إنَّهُ لَوْ عَرَضَهَا لِلْبَيْعِ كَانَ رُجُوعًا، وَلَوْ نَجَّزَ الْوَقْفَ وَعَلَّقَ الْإِعْطَاءَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ جَازَ كَمَا نَقَلَهُ الزَّرْكَشِيُّ عَنْ الْقَاضِي الْحُسَيْنِ، وَلَوْ قَالَ‏:‏ وَقَفْته عَلَى مَنْ شِئْتُ أَوْ فِيمَا شِئْتُ وَكَانَ قَدْ عَيَّنَ لَهُ مَا شَاءَ أَوْ مَنْ يَشَاءُ عِنْدَ وَقْفِهِ صَحَّ وَأُخِذَ بِبَيَانِهِ، وَإِلَّا فَلَا يَصِحُّ لِلْجَهَالَةِ، وَلَوْ قَالَ‏:‏ وَقَفْتُهُ فِيمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَشِيئَةَ اللَّهِ تَعَالَى

المتن‏:‏

وَلَوْ وَقَفَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ بَطَلَ عَلَى الصَّحِيحِ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

ثُمَّ شَرَعَ فِي الشَّرْطِ الرَّابِعِ، وَهُوَ الْإِلْزَامُ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏وَلَوْ وَقَفَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ‏)‏ لِنَفْسِهِ فِي إبْقَاءِ وَقْفِهِ وَالرُّجُوعِ فِيهِ مَتَى شَاءَ أَوْ شَرَطَهُ لِغَيْرِهِ أَوْ شَرَطَ عَوْدَهُ إلَيْهِ بِوَجْهٍ مَا كَأَنْ شَرَطَ أَنْ يَبِيعَهُ أَوْ شَرَطَ أَنْ يَدْخُلَ مَنْ شَاءَ وَيَخْرُجَ مَنْ شَاءَ ‏(‏بَطَلَ عَلَى الصَّحِيحِ‏)‏ قَالَ الرَّافِعِيُّ‏:‏ كَالْعِتْقِ وَالْهِبَةِ‏.‏ قَالَ السُّبْكِيُّ‏:‏ وَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُهُ مِنْ بُطْلَانِ الْعِتْقِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ، وَأَفْتَى الْقَفَّالُ بِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَبْطُلُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْغَلَبَةِ وَالسِّرَايَةِ، وَمُقَابِلُ الصَّحِيحِ يَصِحُّ الْوَقْفُ وَيَلْغُو الشَّرْطُ كَمَا لَوْ طَلَّقَ عَلَى أَنْ لَا رَجْعَةَ لَهُ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

كَانَ الْأَوْلَى التَّعْبِيرَ بِالْأَظْهَرِ، فَإِنَّ الْخِلَافَ قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ فِي الْبُوَيْطِيِّ‏.‏

المتن‏:‏

وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إذَا وَقَفَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُؤَجَّرَ اُتُّبِعَ شَرْطُهُ، وَأَنَّهُ إذَا شَرَطَ فِي وَقْفِ الْمَسْجِدِ اخْتِصَاصَهُ بِطَائِفَةٍ كَالشَّافِعِيَّةِ اُخْتُصَّ كَالْمَدْرَسَةِ وَالرِّبَاطِ‏.‏

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إذَا وَقَفَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُؤَجَّرَ‏)‏ أَصْلًا أَوْ أَنْ لَا يُؤَجَّرَ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ صَحَّ الْوَقْفُ، وَ ‏(‏اُتُّبِعَ شَرْطُهُ‏)‏ كَسَائِرِ الشُّرُوطِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْمَصْلَحَةِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ لَا يُتَّبَعُ شَرْطُهُ؛ لِأَنَّهُ حَجْرٌ عَلَى الْمُسْتَحَقِّ فِي الْمَنْفَعَةِ‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

يُسْتَثْنَى مِنْ إطْلَاقِ الْمُصَنِّفِ حَالُ الضَّرُورَةِ كَمَا لَوْ شَرَطَ أَنْ لَا تُؤَجَّرَ الدَّارُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ ثُمَّ انْهَدَمَتْ، وَلَيْسَ لَهَا جِهَةُ عِمَارَةٍ إلَّا بِإِجَارَةِ سِنِينَ، فَإِنَّ ابْنَ الصَّلَاحِ أَفْتَى بِالْجَوَازِ فِي عُقُودٍ مُسْتَأْنَفَةٍ وَإِنْ شَرَطَ الْوَاقِفُ أَنْ لَا يُسْتَأْنَفَ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُفْضِي إلَى تَعْطِيلِهِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَصْلَحَةِ الْوَقْفِ وَوَافَقَهُ السُّبْكِيُّ وَالْأَذْرَعِيُّ إلَّا فِي اعْتِبَارِ التَّقْيِيدِ بِعُقُودٍ مُسْتَأْنَفَةٍ، فَرَدَّاهُ عَلَيْهِ وَقَالَا‏:‏ يَنْبَغِي الْجَوَازُ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، وَاَلَّذِي يَنْبَغِي، كَمَا قَالَ شَيْخُنَا مَا أَفْتَى بِهِ ابْنُ الصَّلَاحِ، لِأَنَّ الضَّرُورَةَ تَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، وَلَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ أَنْ لَا يُؤَجَّرَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ فَأَجَّرَهُ النَّاظِرُ سِتَّ سِنِينَ، فَإِنْ كَانَ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ لَمْ يَصِحَّ فِي شَيْءٍ مِنْهَا وَلَا يَخْرُجُ عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ فِي فَصْلِهَا، وَإِذَا أَجَّرَ ثَلَاثَ سِنِينَ ثُمَّ الثَّلَاثَ الْأُخَرَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْأُولَى‏:‏ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ الثَّانِي كَمَا أَفْتَى بِهِ ابْنُ الصَّلَاحِ وَإِنْ فَرَّعْنَا عَلَى الْأَصَحِّ أَنَّ إجَارَةَ الْمُدَّةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ صَحِيحَةٌ اتِّبَاعًا لِشَرْطِ الْوَاقِفِ فَإِنَّ الْمُدَّتَيْنِ الْمُتَّصِلَتَيْنِ كَالْمُدَّةِ الْوَاحِدَةِ وَإِنَّمَا أَبْطَلْنَاهُ فِي الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ لِانْفِرَادِهِ، وَلَوْ شَرَطَ فِي وَقْفِهِ أَنْ لَا يُؤَجَّرَ مِنْ مَتْجَرِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُكْتَبُ فِي كُتُبِ الْأَوْقَافِ اُتُّبِعَ شَرْطُهُ، قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ، قَالَ‏:‏ وَلَمْ أَرَهُ نَصًّا ا هـ‏.‏

وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَالظَّاهِرُ كَمَا فِي الْمَطْلَبِ أَنَّ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ الْإِعَارَةَ ‏(‏وَ‏)‏ الْأَصَحُّ ‏(‏أَنَّهُ إذَا شَرَطَ‏)‏ ابْتِدَاءً ‏(‏فِي وَقْفِ الْمَسْجِدِ‏)‏ بِأَنْ وَقَفَ شَخْصٌ مَكَانًا مَسْجِدًا وَشَرَطَ فِيهِ ‏(‏اخْتِصَاصَهُ بِطَائِفَةٍ كَالشَّافِعِيَّةِ اُخْتُصَّ‏)‏ بِهِمْ أَيْ اُتُّبِعَ شَرْطُهُ كَمَا فِي الْمُحَرَّرِ كَالرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا فَلَا يُصَلِّي وَلَا يَعْتَكِفُ فِيهِ غَيْرُهُمْ ‏(‏كَالْمَدْرَسَةِ وَالرِّبَاطِ‏)‏ إذَا شَرَطَ فِي وَقْفِهِمَا اخْتِصَاصَهُمَا بِطَائِفَةٍ اُخْتُصَّا بِهِمْ جَزْمًا‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ لَا يَخْتَصُّ الْمَسْجِدُ بِهِمْ؛ لِأَنَّ جَعْلَ الْبُقْعَةِ مَسْجِدًا كَالتَّحْرِيرِ فَلَا مَعْنَى لِاخْتِصَاصِهِ بِجَمَاعَةٍ، وَلَوْ خَصَّ الْمَقْبَرَةَ بِطَائِفَةٍ اُخْتُصَّتْ بِهِمْ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ‏.‏

المتن‏:‏

وَلَوْ وَقَفَ عَلَى شَخْصَيْنِ ثُمَّ الْفُقَرَاءِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا فَالْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ أَنَّ نَصِيبَهُ يُصْرَفُ إلَى الْآخَرِ

الشَّرْحُ‏:‏

‏(‏وَلَوْ وَقَفَ عَلَى شَخْصَيْنِ‏)‏ مُعَيَّنَيْنِ ‏(‏ثُمَّ الْفُقَرَاءِ‏)‏ مَثَلًا ‏(‏فَمَاتَ أَحَدُهُمَا، فَالْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ‏)‏ فِي حَرْمَلَةَ ‏(‏أَنَّ نَصِيبَهُ يُصْرَفُ إلَى الْآخَرِ‏)‏؛ لِأَنَّ شَرْطَ الِانْتِقَالِ إلَى الْفُقَرَاءِ انْقِرَاضُهُمَا جَمِيعًا، وَلَمْ يُوجَدْ، وَإِذَا امْتَنَعَ الصَّرْفُ إلَيْهِمْ فَالصَّرْفُ إلَى مَنْ ذَكَرَهُ الْوَاقِفُ أَوْلَى‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ يُصْرَفُ إلَى الْفُقَرَاءِ كَمَا يُصْرَفُ إلَيْهِمْ إذَا مَاتَا‏.‏

تَنْبِيهٌ‏:‏

مَحَلُّ الْخِلَافِ مَا لَمْ يَفْصِلْ، فَإِنْ فَصَلَ فَقَالَ‏:‏ وَقَفْت عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا نِصْفَ هَذَا فَهُوَ وَقْفَانِ كَمَا ذَكَرَهُ السُّبْكِيُّ، فَلَا يَكُونُ نَصِيبُ الْمَيِّتِ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ، بَلْ يَحْتَمِلُ انْتِقَالُهُ لِلْأَقْرَبِ إلَى الْوَاقِفِ أَوْ الْفُقَرَاءِ، وَهُوَ الْأَقْرَبُ إنْ قَالَ‏:‏ ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ، فَإِنْ قَالَ‏:‏ ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِمَا عَلَى الْفُقَرَاءِ، فَالْأَقْرَبُ الْأَوَّلُ، وَلَوْ وَقَفَ عَلَيْهِمَا وَسَكَتَ عَمَّنْ يُصْرَفُ إلَيْهِ بَعْدَهُمَا فَهَلْ نَصِيبُهُ لِلْآخَرِ أَوْ لِأَقْرِبَاءِ الْوَاقِفِ‏؟‏ وَجْهَانِ أَوْجَهُهُمَا، كَمَا قَالَ شَيْخُنَا أَنَّهُ لِلْآخَرِ وَصَحَّحَهُ الْأَذْرَعِيُّ، وَلَوْ رَدَّ أَحَدُهُمَا أَوْ بَانَ مَيِّتًا فَالْقِيَاسُ عَلَى الْأَصَحِّ صَرْفُهُ لِلْآخَرِ، وَلَوْ وَقَفَ عَلَى زَيْدٍ ثُمَّ عَمْرٍو ثُمَّ بَكْرٍ ثُمَّ الْفُقَرَاءِ فَمَاتَ عَمْرٌو قَبْلَ زَيْدٍ ثُمَّ مَاتَ زَيْدٌ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ‏:‏ لَا شَيْءَ لِبَكْرٍ، وَيَنْتَقِلُ الْوَقْفُ مِنْ زَيْدٍ إلَى الْفُقَرَاءِ؛ لِأَنَّهُ رَتَّبَهُ بَعْدَ عَمْرٍو، وَعَمْرٌو بِمَوْتِهِ أَوَّلًا لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَمَلَّكَ بَكْرٌ عَنْهُ شَيْئًا‏.‏

وَقَالَ الْقَاضِي فِي فَتَاوِيهِ‏:‏ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُصْرَفُ إلَى بَكْرٍ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْفُقَرَاءِ مَشْرُوطٌ بِانْقِرَاضِهِ، كَمَا لَوْ وَقَفَ عَلَى وَلَدِهِ ثُمَّ وَلَدِ وَلَدِهِ ثُمَّ الْفُقَرَاءِ فَمَاتَ وَلَدُ الْوَلَدِ ثُمَّ الْوَلَدُ يَرْجِعُ إلَى الْفُقَرَاءِ، وَيُوَافِقُهُ فَتْوَى الْبَغَوِيِّ فِي مَسْأَلَةٍ طَوِيلَةٍ، حَاصِلُهَا أَنَّهُ إذَا مَاتَ وَاحِدٌ مِنْ ذُرِّيَّةِ الْوَاقِفِ فِي وَقْفِ التَّرْتِيبِ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهِ لِلْوَقْفِ لَحَجَبَهُ بِمَنْ فَوْقَهُ يُشَارِكُ وَلَدُهُ مَنْ بَعْدَهُ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِهِ‏.‏ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ‏:‏ وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ، وَلَوْ قَالَ‏:‏ وَقَفْت عَلَى أَوْلَادِي، فَإِذَا انْقَرَضَ أَوْلَادُهُمْ فَعَلَى الْفُقَرَاءِ هَلْ تَدْخُلُ أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ فِي الْوَقْفِ أَوْ لَا‏؟‏ اخْتَارَ ابْنُ أَبِي عَصْرُونَ الْأَوَّلَ، وَيَجْعَلُ ذِكْرَهُمْ قَرِينَةً فِي دُخُولِهِمْ‏.‏

وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ‏:‏ إنَّهُ الْمُخْتَارُ‏.‏

وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ‏:‏ الصَّحِيحُ أَنَّهُ مُنْقَطِعُ الْوَسَطِ؛ لِأَنَّ أَوْلَادَ الْأَوْلَادِ لَمْ يَشْتَرِطْ لَهُمْ شَيْئًا، وَإِنَّمَا شَرَطَ انْقِرَاضَهُمْ لِاسْتِحْقَاقِ غَيْرِهِمْ ا هـ‏.‏

هَذَا أَوْجَهُ‏.‏